أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الخامِسَةُ (٢٠)

نــــــــــزار حيدر
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
لماذا؟!.
لأَنَّ فلسفة الخَلق قائمةٌ على العدلِ الإِلهي {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقولهُ تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والذي يحقِّقهُ الرُّسل والأَنبياء والأَئِمَّة {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} وقولهُ {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكيف سيحقِّق الإِمام والخليفة هذا العدل الإِلهي إِذا كانَ ظالماً ولو بمقدارِ قِطمير؟!.
ولذلك قَالَ الله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
فليسَ كلُّ مَن هبَّ ودبَّ ينالُ عهد الله تعالى فيكونُ إِماماً على النَّاس وإِنَّما {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أَمّا النَّاسُ فيتمنَّونَ العهدَ لِمن يشاؤُون ولكن هيهاتَ {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أَو كما في قولهِ تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
إِنَّ معايير الله تعالى في الإِختيار تختلفُ عن معاييرِ النَّاس! فإِذا كانت معاييرهم هي المال والجاه والسُّلطة فإِنَّ معايير الله تعالى تختلف إِختلافاً جذريّاً! ولذلكَ يُفاجأ النَّاس في كلِّ مرَّةٍ بالرَّسول والنَّبي والإِمام لأَنَّهم لا يأتونَ طِبقاً للمُواصفاتِ والحساباتِ التي في مُخيَّلتهِم أَو التي يودُّونها!.
لقد كان أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) المصداق الوحيد لقولِ الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} بعدَ رَسُولِ الله (ص) بعد أَن نفى عز َّ وجلَّ إِمكانيَّة العهد عن الظَّالمين بقولهِ {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
فلم يُسجَّل عليهِ أَنَّهُ ظلمَ أَحداً أَبداً وهوَ القائلُ {وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا} ويُضيفُ {وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ}.
لقد كانَ بإِمكانِ الإِمام (ع) أَن يتنازلَ قليلاً جدّاً عن الحقِّ فيظلِم نَفْسَهُ لتستقِرَّ لَهُ الحكومة كأَن يُميِّز في العطاء مثلاً أَو يوزِّع الأَقاليم على [الصَّحابة] حسب ما يُريدُونَ! أَو يغُضَّ النَّظر عن الفسادِ المالي والإِداري الذي استشرى بشَكلٍ فضيعٍ وخطيرٍ في عهدِ الخليفة الثَّالث على الأَقلِّ ليقطعَ أَلسِنة الأَمويِّين ويهدِّئ من رَوعهِم فلا يتحزَّبون ضدَّهُ ويتآمرُونَ عليهِ! إِلّا أَنَّهُ فعلَ العكس فقد قَالَ لهُم محذِّراً في أَوَّلِ خُطبةٍ بعد البَيعةِ {وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ}فالحقُّ عِنْدَ الإِمام لا يسقُط بالتَّقادُمِ!.
رُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ وَ عُمَارَةَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) مَشَوْا إِلَيْهِ عِنْدَ تَفَرُّقِ النَّاسِ عَنْهُ وَ فِرَارِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ طَلَباً لِمَا فِي يَدَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، وَ فَضِّلْ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَافَ مِنَ الْعَرَبِ وَ قُرَيْشٍ عَلَى الْمَوَالِي وَ الْعَجَمِ وَ مَنْ تَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ فِرَارَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
فَقَالَ لَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) {أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ، لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَاحَ فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَالُهُمْ لِي لَوَاسَيْتُ بَيْنَهُمْ وَكَيْفَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْوَالُهُم؟!}.
كما كانَ بإِمكانهِ أَن يُرضي طلحةَ والزُّبير ويكسب وُدَّهم بعدَّة دراهمَ إِضافيَّة يُنفقها عليهِما من بيتِ المال كما كان يفعلُ مَن كان قبلهُ فيلوذا بالصَّمتِ فلا يخرجا عليهِ ويجيِّشا ضدَّهُ في المدينةِ ومِن ثُمَّ في البَصرةِ!.
كان بإِمكانهِ أَن يفعلَ هذا أَو بعضهُ أَو أَكثر مِنْهُ لتستقِرَّ لَهُ الحكومةَ ولكن! على حسابِ ماذا؟! على حسابِ العدلِ! وهذا ما لم يفعلهُ الإِمام المعصُوم أَبداً لأَنَّهُ سيُشمل بقولِ الله تعالى {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟! فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ (ع) {وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا}.
لقد كانَ الإِمامُ يعرفُ جيِّداً ما الذي يُصلح حال النَّاس كما يعرفُ كيفَ يُداريهِم ولكنَّهُ في نفسِ الوقتِ كان على يقينٍ من أَنَّ الطَّريق الوحيد لتحقيقِ ذلك هو الباطل والظُّلم! أَي إِفسادِ نفسهِ لإِصلاحِ النَّاس وهذا ما لم يقبل بهِ الإِمام (ع) {وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ، وَيُقِيمُ أَوَدَكُمْ، وَلكِنِّي واللهِ لَا أَرَى إِصْلاَحَكُمْ بَإِفْسَادِ نَفْسِي}.
٤ حُزَيران ٢٠١٨
لِلتَّواصُل؛
‏E-mail: nazarhaidar1@hotmail. com
‏Face Book: Nazar Haidar
‏Telegram; https://t.me/NHIRAQ
‏WhatsApp & Viber& Telegram: + 1(804) 837-3920

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here