لغتنا العربية وعلم الانثروبولوجيا،

* د. رضا العطار

الكلمات اصوات . نشات بين البرمائيات كالضفادع . كي ينادي الذكر الانثى . وكانت غايتها الاولى لهذا السبب جنسية . بل ما زلنا نرى ان اغاريد الطيور, التي يزخر بها الجو في الربيع، انما يقصد بها في الاغلب نداء الجنس الاخر للتناسل. والصوت يعبر عن العاطفة. ولذلك يجب ان لا نستغرب قول العالم النفساني فرويد : ان الباعث الاول للنشاط البشري هو الشهوة الجنسية.
يجب ان لا يصدمنا هذا القول , لان فرويد قد يصر من خلال هذا القول الى الجذور الاولى التي تختفي في جوف التطور. ومهما تنتشر الفروع وتبسق في السماء فان جذورها لا تزال في الارض.

ولغتنا العربية هي خليط من كلمات الحضارة والبداوة, بل الغابة الاولى ! حين لم يكن يعرف الانسان الزراعة او الصناعة. انظر مثلا الى كلمة ( كُخ ) التي تعم جميع البشر في نهي الطفل عن شيء. فانا وانت والقردة والانجليز والالمان والصينيين والهنود والاغريق – – الخ سواء في هذه الكلمة التليدة.
نشأت لغتنا كما نشأت جميع اللغات, في الاوساط البدائية الاولى، وكان استنباط المعاني يجري وفقا للوسط. ونستطيع الآن بتحليل الكلمات والرجوع الى اصولها القديمة ان نعرف العقائد والقواعد الاجتماعية التي كان يعيش اسلاف العرب فيها. انظر مثلا الى كلمة ( الحياة ) فانها مشتقة من ( الحيا ) اي عضو التناسل عند المرأة. وما زال الفلاحون في الصعيد المصري يقولون – حيا البقرة – او – حيا الفرس – ذلك ان الانسان البدائي لم يكن يعرف ان علاقة الرجل بالمرأة تؤدي الى التناسل، فكان يعتقد ان الام هي الاصل الوحيد للاولاد. بل انه كان يصنع التماثيل – للحيا – ويحملها, باعتقاد ان الحيا هي اصل الحياة.

وانه ما دام يحمل تمثاله، فانه سيعيش وينجو من المخاطر. وعلى هذا الاعتقاد بان الام هي كل شئ. صار النظام الاجتماعي عند الانسان البدائي امويا. وهذا واضح عند قدماء العرب . ويتضح اكثر عندما نعرف اصل كلمتي – الحماة – و – الضمد – و المقصود من الكلمة الاخيرة هو زواج المرأة بعدد من الرجال, و قد امتدت هذه البدعة الى مرحلة متأخرة من العهد الجاهلي, و اختفت بظهور الاسلام.

وتطور الناس وانتقلوا من النظام الاموي الى النظام الابوي. لكن بقيت في لغتنا – الحياة – تدل على اصولنا وجذورنا الاجتماعية.
ثم من – الرحم – اشتق الناس الرحمة، اي ان الرحمة كانت في الاصل العلاقة القائمة بين ابناء الرحم، وهذه الكلمة تدلنا على ان النظام الاموي سبق النظام الابوي. ثم ارتقى الناس فصارت الرحمة فضيلة عامة بين ابناء القبيلة او الامة، كما اشتققنا نحن الاخاء البشري من الاخوة بين ابناء العائلة الواحدة.

وكذلك عرف الانسان البدائي الروح من الريح. والنسمة من النسيم. والنفسُ من النَفَسلان الفارق الوحيد عنده بين الحياة والموت لم يكن اكثر من التنفس، فاذا انقطع كان الموت. ومن هنا نشأت عقيدة الروح. وهذه الكلمات وغيرها كثيرة، تكشف لنا عن اللبنات الاولى التي تكون بها اساس اللغة العربية, ولكل كلمة منها معنى انثروبولوجي يوضح لنا نشأة الافكار والعقائد.

فنحن في عصرنا نميز مثلا بين الاسود والاخضر, لكن معاجمنا لا تزال تحتفظ بالمعنى القديم لهذه الالوان, وهي انها لون واحد. ويشارك العرب معظم الامم البدائية في اشتقاق صفة الملاحة. بمعنى الظُرف والصَباحة وهي اتية من الملح، لان الملح كان من الاشياء الثمينة التي لم يكن يحصل عليها غير المترفين.

واعتبر المساعدة من الساعد. لان المساعدة تعني ان احدا يستعمل ساعده في خدمتنا، واعتبر الانفة من الانف, والشمم من الشم، لاننا حين نانف من شيئ نرتفع بأنوفنا، او انظر كيف اشتقت المعاقبة من التعقب. لان الانسان البدائي كان يعاقب خصمه بأن يتعقبه حتى يجده ويثأر منه، وما زالت معاجمنا تقول – تعقبه : تتبعه واخذه بذنب كان منه – او انظر الى كلمة – كف – بمعنى منع, فانها مشتقة من الكف اي باطن اليد. لاننا نمنع الناس بايدينا اي بكفوف ايدينا، والكفيف سمي كذلك لانه بمثابة من يضع كفه على عينيه.

ثم انظر الى فعل – احصى – بمعنى عدّ، فانه مشتق من الحصى و اي صغار الحجر، وذلك ان الانسان البدائي كان يجهل العد بالارقام, فكان اذا شاء ان يعرف ما عنده من خراف, وضع في جعبته عن خروف حصاة, فاذا شاء العد اخرج حصاة عن كل خروف وحسبه هذا. وقد استق الرومان الحساب والعد على هذه الطريقة نفسها. كما نرى في الفعل الانجليزي كالكوليت بمعنى حسب من كالكياوس بمعنى الحصاة.

والمعروف عن لغتنا في اصلها ثلاثية الحروف. ولكن الاغلب انها ثنوية. اي ان كلماتها كانت من حرفين فقط. فها هنا كلمات تدل على معاني متقاربة وهي ان خرجت شيئا من شيئ : نبأ . نبت . نبح . نبذ . نبس . نبش . نبط , نبض , نفط . نطف . نطق.

فهذه الكلمات مترادفة في معنى الشيئ. لكن من مصلحة اللغة والفهم ان نعبن لكل منها معنى يختلف عن الاخر. وهذا هو ما قضى به منطق اللغة والتمييز الذهني، ومن هذا الشرح الموجز يتضح لنا ان كل لغة انما هي بمثابة المصنع الذي يعيش في عصرنا.
ومع ذلك يجمع في مستودعاته فأسا من الحجر كانت تستعمل قبل اكثر من عشرة الاف سنة، وابرة من الشوك كان اسلافنا يستعملونها قبل مئة الف سنة. وسيفا من البرونز كان يستعمل قبل اربعة الاف سنة. وبين مصنوعاته المصباح الكهربائي. ومن هنا هذا الارتباك الذهني الذي يؤدي الى خلط الفهم. ذلك لاننا نستعمل ادوات قديمة كي تؤدي لنا خدمات جديدة.
* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here