عن وأد النساء في العراق

عبد اللطيف السعدون

يتأبّط الرواة القادمون من بغداد، في جرب أخبارهم، شرورا، كعادتهم منذ وقعت عاصمة الرشيد والمأمون في قبضة الغرباء. والشرور التي يتأبطونها هذه الأيام يهون أمامها جراب الأفاعي الذي حمله الشاعر الجاهلي الصعلوك، ثابت بن جابر، إلى أمه، فأطلق الناس عليه جرّاء تلك الواقعة تسمية “تأبط شرّا” بحق.
وجديد ما حمله الرواة أن الموت شرع يطارد نساء العراق في ظروفٍ غامضة، وفي ظل عجز عن فهم ما يحدث فقد تلاحقت حوادث “وأد” النساء في الشهر الفائت على نحو متسارع، وكأن قدرا أسود قد أحاق بهن. وتعدّدت وقائع الموت، من دون أن تلفت انتباه ولاة الأمور الذين انشغلوا في عقد الصفقات التي تضمن لهم بقاء سيطرتهم على السلطة والثروة والقرار أمدا قد يطول. ومع كتابة هذه المقالة، نقلت الصحافة وشبكات التواصل نداءً من ناشطة إعلامية معروفة، سبق أن حصلت على لقب “ملكة جمال العراق” تطلب من السلطات حمايتها إثر تلقيها رسالة تهديدٍ تبلغها أن اسمها وضع على لائحة الموت، فإن لم تكفّ عن نشاطاتها، فسيأتيها قطار الموت على عجل.
وإذا كان بعضهم يعرف ما يجري، لكنه يتصرف وكأنه أمام مفاجأة، فإن الوقائع الدامغة التي أصبحت ملء الأسماع والأبصار لم تعد تحسب من المفاجآت، بل هي جزءٌ من مشهد الخراب السياسي والاجتماعي الماثل أمامنا، والذي وجد العراقيون أنفسهم محشورين فيه، على حين غفلة، وهو المشهد الذي أفرزته تجربة الاحتلال، ورسمت مساره بخبثٍ طغمةٌ من متخلفي العقل وناقصي المعرفة الذين يخطّطون لنقل البلاد تدريجيا من موقعها الحضاري الذي تبوأته قرونا إلى موقع رجعي متخلف متعصب وجاهل.
وبالعودة إلى وقائع “وأد” النساء، فان خطاب الحكومة الذي يعترف بأن الجرائم “حصلت باحترافيةٍ عاليةٍ، وبصورةٍ متزامنةٍ توحي بأن وراءها جهات منظمة هدفها الإخلال بالأمن”، فإن اللجان التحقيقية التي شكلت لمعرفة السبب والمسبب أرجعت الأمر، بحسب ما ردّدته جهات أمنية، إلى خلاف عائلي، تناول دواء خطأ، سكتة قلبية مفاجأة، علاقة عاطفية.. إلى آخر
“مطاردة الموت نساء العراق لم تثر أحدا من عضوات البرلمان ال 82″
المعزوفة التي أطلقتها، وكأنها تريد أن تقول إن ما حدث أمرٌ طبيعي قد يحدث في أحسن العوائل، في حين أن خطاب العارفين، وهم كثر، يؤكد أن مليشياتٍ معينة، و”سادة” معممين، ومافيات جريمة منظمة تعمل لحساب من يدفع تقف وراء مطاردة الموت نساء البلد، والغرض تكريس الجهل، والحط من كرامة المرأة، والحجر على كل نشاط اجتماعي لها.
والغريب أن منظمات ما يسمى المجتمع المدني، وتجمعات المثقفين التي تزعم أنها تدافع عن المواطنة والحقوق المدنية، وهي كثيرة والحمد لله، وتوجد حتى في المدن الصغيرة، وخصوصا من تعنى منها بقضايا النساء واهتماماتهن، لم تتداع لوقفةٍ تضامنيةٍ تشجب فيها تلك الممارسات الهمجية، لكن الأكثر غرابةً أن مطاردة الموت لنساء البلاد لم تثر أحدا من عضوات البرلمان (82 امرأة) يفترض نظريا أنهن يمثلن الشريحة النسائية في البلد البالغ تعدادها أكثر من سبعة عشر مليونا. ولم نسمع أو نقرأ حالة تعاطفٍ من برلمانيةٍ واحدة مع ضحايا عصابات الموت أو المطالبة بتحقيق قضائي شفّاف، يكشف الجهات وراء هذا النمط من الجرائم. ودعك من أن يأخذن على عاتقهن تشكيل لجنةٍ من بينهن لفك أسرار وقائع الموت، ويُشرن بأصابع الاتهام إلى تلك الجهات، من دون أن تأخذهن في قولة الحق لومة لائم.
هكذا تكتب الأقدار على العراقيين أن يصلوا إلى قمة البؤس، وهم يقطعون مدارج القرن الحادي والعشرين، وقمة البؤس في بلدٍ ما أن تشاهد بأم عينيك الموت، وهو يحطّ رحاله في شوارع المدن التي أصابتها لعنة الترييف والتديّن الزائف، من دون أن يقف أحد من ولاة الأمور ليصدّه، وأن يأتيك الرواة وهم يتأبّطون شرورا دونها “جراب الأفاعي” في المروية المعروفة. ولك أن تخمّن، بعد هذا كله، ما الذي سوف يحدث في قابل الأيام التي قد تحمل ما هو أكثر هولا وبشاعةً. وهذه ليست نبوءة متشائمة، بل هي واقع حقيقي ينمو، وتتسع مساحته ساعةً بعد ساعة، والذين لا يدركون ما يحدث اليوم، فإنهم بلا شك يعرفون ما سوف يحدث غدا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here