من غرائب عالم الحيوان *

د. رضا العطار

اننا نتوهم عندما نعتقد ان الأحياء تسعى في النهار وتنام في الليل كما نفعل نحن . لكن الحقيقة ان معظم احياء العالم من هوام وحشرات وسباع تسعى ليلها وتنام نهارها.
واذا قيس الليل بالنهار في اعتبار الطبيعة من حيث نشاط الحيوان وهدوئه, كان الليل وقت السعي والحركة وكان النهار وقت الهدوء والسكون. ونحن نعرف ذلك في بيوتنا وقرانا وحقولنا. فالبعوض والصراصر والخنافس لا تدب الا في الظلام وكذلك في حقولنا, فالثعبان لا يسعي في طلب الجرذان الاعندما يحميه الظلام. والذئاب تتعاوى في الليل ولا نراها في النهار. فالنهار وقت راحتها.

الخفاش حيوان الليل, غير مدافع. والعجيب في هذا الحيوان انه يحس البعوض باطراف اجنحته, ويتوقى العوائق في طيرانه بينما هو اعمى. وتفسير ذلك ان حاسة اللمس عندها قد اشتدت في اطرافها حتى صارت تحس عن طريق تموجات الهواء بصدى حركتها, ومن هنا اكتشف عقل الانسان سرّ الرادار.
وبعض الخفافيش تعيش في الكهوف حيث الظلام الدامس ومع ذلك تسلك طريقها وتعرف اوكارها. وفي امريكا نوع من الخفاش يمتص الدماء, فلو لامس فمه جسم الانسان النائم الذي قلما يشعر بذلك, فليس لعضته من الألم اكثر مما لعضة البعوضة. فإذا استيقظ وجد انه قد فقد رطل من دمه.

اما الثعلب فقد نراه في النهار ولكنه لا يسعى الى رزقه, فالنهار وقت لعبه ومرحه, لذلك لا تخشاه الحيوانات في هذا الوقت. فقد ذكر احد الانكليز الذي كان مكلفا لرعاية الارانب الخاصة لاحد اللوردات انه رأى الثعالب تلعب في النهار قريبا من جحر الارانب. وكانت هذه الارانب تلعب ايضا خارج جحورها, ترى الثعلب ولا تحاول الهرب منه حتى اذا آذنت الشمس بالمغيب دخلت الارانب حفرها في الارض وبان علامة الجوع وشهوة الافتراس على وجه الثعلب. هكذا يستمر التنازع على البقاء.
حتى يصح قول – هكسلي – ( الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب )

حتى البهائم نفسها كالجاموس والظباء لا تسعى الا في الليل. تذهب الى المشارع البعيدة لكي تشرب الماء لكنها تجد الاسود متربصة لها. وترى التماع عيونها في الظلام فتقف برهة بين الم العطش وبين الخوف على حياتها. واخيرا يقهرها العطش على الورود فتقذف بنفسها في الماء وتخطف كرعة ثم تطير ناجية بنفسها. في هذه اللحظة ينقض اسد على جسم الجاموس ويضربه بكفه العاتية على راسه ثم يغرز انيابه في عنقه ويقطع حبله الشوكي فيقع الحيوان ارضا متشحطا في دمه . حينها يزأر الاسد زئير الظفر ثم يشق بطنه ويلتهم كبده.

حتى الفيلة تسعى في الليل وترتاح في النهار, تهاجم حقول قصب السكر فتتلف في جولة واحدة قرية باكملها فيذهب في ساعة واحدة ما قاساه الفلاحون من التعب في عام.
بل القردة نفسها تهاجم البساتين ليلا فتاكل ثمارها وهي صامتة حتى لا ينتبه اصحابها فاذا طلع ضوء الفجر ولت عائدة الى الغابة.

فتنازع البقاء يعمل لصالح الذكاء في الحيوان كافة. ولسرعة العدو في البهائم ولقوة الوثبة عند السباع , يعلّم الاول الجلد على الجوع و العطش و يعلّم الثاني الصبر والتحمل ويرقي فيها جميعها مادة العصب والعضلة.

الخوف هو من غرائز الحيوان والانسان معا. فكلاهما مفطور على الحذر من كل غريب والفرار منه عند اللقاء الاول. والحيوان يتفاوت في عاطفة الخوف. فمنه ما يفر لاقل حس او حركة كما هو الحال في الارنب البري بينما يسير الاسد في الغابة كأنه يسير في بيته, مختالا متبخترا. يوهم انه لا يهاب اي مخلوق . مع ذلك انه يخاف احيانا من الشئ الغريب عليه ويفر منه.

فقد ذكر صيادا ان اسدا هاجم خيمته وفاجأ زوجته, فلم تر شيئا قريبا منها سوى مظلة المطر, فتناولتها بصورة عفوية وبسطتها في وجهه, فتراجع الاسد مرتاعا اذ لم ير شيئا في حياته يكبر وينبسط بهذه السرعة, وكأنه حسبه حيوانا غريبا, سوف يستمر في الانبساط حتى يلتهمه, ففر.

لكن غريزة الخوف الموجودة في الحيوان تكون في بدايتها شيئا غشيما مبهما, فإذا نشا الحيوان اكتسب من والديه هذه الغريزة ومع الايام يقويها او يضعفها, ففراخ الطيور تنشأ وكأنها لا تخشى شيئا فهي تتناول الطعام من ايدينا. ولكن ما ان شبت حتى تعلمت من امها الخوف وعرفت عدوها من صديقها.

فنحن نولد مثلا وفي نفوس كل منا اثارة خوف ورثناها عن ابائنا تجعلنا لا نطيق الانفراد في الظلمة. ولا شك في ان هذه الغريزة كانت مفيدة لابائنا, اذ كانت تدفعهم الى الاجتماع فيشد بعضهم بعضا. وكانوا لا يتطوحون في مهاوي الظلمة حيث وسائل الهلاك عديدة. وقد ضعفت هذه الغريزة في نفوسنا وقام مقامها مخاوف اخرى اقتضتها الحضارة . فنحن نخاف الافلاس والامراض وحوادث الطرق وما اليها.

وجميع انواع الحيوان التي عرفت الانسان تخشاه وتفر منه. الا عندما يعضه الجوع ويشرف على الهلاك, فالاسد مثلا لا يهاجم القرى الا عندما تقع اسنانه وتنهد قواه فلا يطيق بعد الجري وراء حيوان الغابة. فإذا ضرى على اكل الانسان لم يتحول الى غيره.

وسبب خوف الحيوان من الانسان يرجع الى التجارب القديمة وما ابلاه . فقد عاش الانسان حقبة من الزمن وهو يقنص الحيوان للطعام واللهو, فأنغرزت في ذهن الحيوان غريزة الخوف منه وتوارثها الخلف عن السلف حتى صارت فيه طبيعة ثابتة والدليل على ذلك ان الحيوان الذي يعيش بعيدا عن الانسان لم يراه بعد لا يخافه ولا يحسب حسابه.

يروي لنا عالم البيولوجيا وصاحب نظرية التطور واصل الانسان شارلتس داروين انه حين كان يجري ابحاثه في جزر )جلاباجوس( التي كانت انذاك خالية من البشر, لاحظ ان جميع الطيور لا تخشى الانسان. فقد كتب في مذكراته – ان جميع حيوانات اليابسة كالعصفور والحمام كانت تقترب مني بحيث اصيدها بالقبعة ولا ضرورة للبندقية. وقد دفعت صقرا عن غصن شجرة بطرف عصاي, كذلك كان ابريق بجانبي وقد وقف عليه عصفور, وعندما رفعت الابريق لم يتحرك العصفور من مكانه.

لست انا في مقام الصوفية واقول مع القديس اوغسطينوس – اخي الطير – ولا اطلب تعميم الاخاء بيننا وبين الحيوان ولكني اقول : ا ن زمن اعتماد الانسان على الحيوان في المعاش بصيده ونصب الفخاخ له قد ولّى, فليس يعدو الصيد الان ان يكون الا لهوا. وقد كان تجار قبعات السيدات الى عهد قريب يقتلون الالاف من الطيور الجميلة, بغية الحصول على ريشها الزاهي, حتى كادت تنقرض. مثلما كان التجار يقتلون الفيلة بهدف الحصول على نابها. الى متى تبقى علاقتنا مع الحيوان علاقة عداء ؟
اوليس هناك بادرة عاطفة تجمعنا مع الحيوان ؟

* مقتبس من اعمال الكاتب الاجتماعي سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here