كنوز العراق… في زمن الكساد النفطي؟

د.حسن خليل حسن

جامعة البصرة

(ان الارنب لا يخاف من الاسد لأنه اذكى منه : كتاب كليلة ودمنة)

كان النفط وما زال مصدراً اساسياً لدخل العراق ومعظم دول الشرق الاوسط وبالأخص دول الجزيرة العربية، ولعقود طويلة لم يحقق النفط لأي منها وجوداً معنوياً ولا قوة اقتصادية مرجوة، فمعظم الدول العربية استنزفت عوائد التصدير منذ اكتشاف النفط في اليمن (الحديدة) في العام 1912 وانتاجه في العراق 1925 وبعده دول الخليج الاخرى الى يومنا هذا في الاستهلاك والانفاق غير الانتاجي الا ما ندر، بل على العكس اصبحت هذه العوائد وبالاً على اغلب الشعوب العربية حين ساهمت بصناعة الجمهوريات المستبدة والمماليك المتوارثة والحروب المفتعلة ناهيك عن اشاعة ثقافة الاستيراد السلعي والاتكالية والاستهلاك الفاحش والوظائف غير المنتجة، ولم يفلح نفط الجزيرة العربية بصناعة ناتج قومي مستقر واستثمارات حقيقية تضمن للأجيال حياة كريمة ومستقبل مقبول في ظل تنامي المنافسة في العالم في التصنيع والابتكارات وتطوير المهارات، عدا بعض المحاولات القليلة من بعض دول الخليج في الاستثمارات الزراعية خارج اراضيها القاحلة او محاولات متأخرة لدعم قطاعات النقل والموانئ والمدن التجارية والسياحية بالاستفادة من عوائد النفط، وباستثناء ذلك لم تزل البطالة تشكل القاسم المشترك لحوالي ثلث او اكثر من القوى العاملة في هذه البلدان.

كما ان من نتائج الاعتماد على الريع الأحادي من تصدير النفط هو ما نشاهده من اجيال كسولة انتجتها التخمة المالية وافواج من العاطلين والموظفين الخاملين لن لم يكونوا فضائيين بعد ان توقفت نشاطات الانتاج والتصدير واستعيض عنها باستقدام العمالة الاجنبية والاستيراد السلعي لجميع الحاجيات الى درجة انك لا تشاهد في الاسواق سوى باعة يملئون الاسواق الرئيسية والفرعية والازقة بل اصبح بيع المستورد يملئ الدور التي توصل الطلبات الى ابواب منزل المستهلك..!! وشمل ذلك جميع انواع السلع حتى وصل الى استيراد الخضروات والزهور والالبان والمياه المحلاة وحتى ملح الطعام والاكياس الورقية والنايلون، هذه الحال تركت المجتمع المؤلف من 40 مليون انسان عراقي بين سندان الموازنة المرتكزة على اسعار النفط ومطرقة البطالة والبلادة الانتاجية لدى شعب صنع العجلة وشرع قانون حيازة الارض ورعايتها وانتج الحرف الذي استفادت منه البشرية في صناعة حاضر مشرق بالإنتاج والابداع والاكتفاء بينما اكتفى هو باستيراد ما تنتجه البلدان ولم يستخدم يده سوى بأنفاق ما تجود به الموازنة من راتب شهري مهدد في السنوات القادمة، ما دام الصناعي اصبح كاتباً والمزارع اصبح موظفاً والموظف اصبح مستهلكاً، ان هذا الحديث يبدو ثقيلاً على مجتمعاتنا لكن بمجرد النظر الى مزايا العراق وتنوع موارده الطبيعية وثرواته البشرية المتمثلة بالعقول الخلاقة القادرة على التأقلم مع متطلبات المراحل الحرجة سيدرك القارئ ان في الكلام وجهة نظر. بعد ان ظهر حجم الجمود الذي انتاب هذا الشعب الحي بداعي الوفرة المالية المتأتية من النفط، بينما اثبتت تجارب الحروب والحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الفائت، لكن مقارنة تلك القدرات القومية الرهيبة مع الانتاجية الصفرية الحالية التي وصل اليها العراقي

ومع اقتراب نهاية قرون من اعتماد العالم على استهلاك الوقود الاحفوري في توليد الطاقة فان جائحة كورونا اعطت انذاراً مبكراً واخيراً للدول التي اعتمدت طويلاً على عوائد النفط، اذ من المؤمل ان يتضاءل الاعتماد على مشتقات النفط في العام 2035 ، وبحسب خبراء الطاقة فان آخر سيارة تعمل بالبنزين ستصنع في العام 2034 واليك ان تتصور ما ستكون عليه حال الصناعة النفطية بعد 14 عاماً من الان…!!

ان الحديث عن واقع اقتصادي مؤسف دون اعطاء اشارات نجاة يبدو بلا طائل، لذا سنعرض جزء من الامكانات الاقتصادية والانتاجية في العراق لنرى هل نحن شعب سوف يفلس اذا رفعت عنه عوائد البترول؟؟ كما سحاول ان نضع خطوط عامة للحلول التي بأيدينا على وفق الظرف الراهن من ولقع المجتمع الاستهلاك وموارد طبيعية وتاريخية مع الاخذ بنظر الاعتبار التضخم السكاني وتقلص حجم المياه السطحية المتدفقة وتصحر الاراضي الزراعية، ولتكن البداية من مصادر دخل غير مرصودة كثيراً، ولعل اهم الموارد الوطنية التي ينبغي العمل على وضع الخطط التنموية لها مستقبلاً ما يلي:

1- تفعيل مبدأ صناعة الفرد المنتج ودحر ثقافة الاستهلاك: ان اول ما يراد تطبيقه هو تغيير نمط التعامل مع الموارد عن طريق استقطاب ورعاية الابداع الانساني وتوجيهه الى العمل بمختلف الانشطة الاقتصادية من زراعة وتصنيع وتجارة وخدمات وبناء وبث وعي مجتمعي لجميع الفئات بضرورة توظيف الطاقات ضمن الفعاليات الانتاجية لتحقيق الاكتفاء الذاتي، واتباع الاسلوب العالمي الحديث القائم على الابتكار والتجديد والمنافسة والبدأ بتطبيق نظريات بحثية وبراءات اختراع ظلت حبيسة صدور اصحابها في مجلدات وكتب ومنشورات ومختبرات الصناعيين والكيمياويين والالكترونيات وبحوث البوليمر والاستزراع والاغذية وكيمياء الادوية والتصنيع الالكتروني والحرفي وغيره من اشكال الابداع العلمي والتخصصي في العراق، والالتفات الى ما لم يؤخذ بايدي اصحابه ومبدعيه من قبل القادة والمسؤولين، ان مهمة ومسؤولية استخراج كنوز العراق الاقتصادية تحتاج الى قيادة رشيدة ومواطنة صالحة واستقدام تجارب عالمية واقليمية ناجحة في ادارة الموارد في زمن الكساد النفطي والاستفادة من خبرات الكفاءات المنتجة سواء العائدة من دول مزدهرة او التي عكفت على التطوير داخل العراق، وهنا لابد من القول ان الاستضاءة بخطوات الاستثمار التي انتهجتها العتبات المقدسة في كافة القطاعات من التجارب الملهمة التي يندر تكرارها، وبالرغم من منطلقاتها بدأت عقائدية الا ان امتداداتها المعاصرة اصبحت ذات جدوى ونفع اقتصادي خدم الجماهير في اهم القضايا المصيرية واصبح الدعم اللوجستي والصحي والتجاري والفكري من السياقات والتجارب المعاصرة التي نحتاج الاستفادة منها، ولعل اهم ما يميزها هو استقلاليتها التامة عن الحكومة المركزية، ان لعب دور مؤسساتي اكبر للمنشآت الاقتصادية يحتاج الى تأصيل وتوظيف ومحاكاة هذه التجربة الفريدة على المستوى الوطني بالإضافة الى التجارب الاقليمية الناجحة .

2-العوائد الاستثمارات البحرية والمينائية: لن ننفق وقتاً في الحديث عن الصيد البحري والاستزراع الساحلي واستثمار الاملاح البحرية وتسخير طاقة المد والجزر التي تحرك المياه بسرع عالية 4 مرات يومياً وامكانية توليد الطاقة، لكن لنتحدث عن القدرات المينائية المحورية للعراق في مشروع عالمي هو طريق الحرير الذي سيغير ميزان القوى الاقتصادية، اذ يهدف المارد الصيني الى لعب دور عالمي اكبر في التجارة بعد تحقيق مشروع الربط البري والبحري والجوي (الحزام-الطريق) الذي يقع العراق في نقطة محورية منه في الربط بين اسيا واوربا وما يمكن ان يصنع من نقلة اقتصادية رهيبة للعراق وتوفير فرص عمل ويكفي ان الكويت التي تحاول الهيمنة على دور العراق في هذا المشروع بنت امالها الكبرى لاقتصاد ما بعد النفط على هذا المشروع، ولنا مقالة تفصيلية نشرت قبل سنة تقريباً فيها تفاصيل هذا المشروع.

3- مورد صناعة السلع الاستهلاكية والتصنيع الحرفي: امتلك العراق لغاية ثمانيات القرن الماضي امكانيات مشهودة في صناعة الحديد والصلب والنسيج والجلود والصناعات الالكترونية وصناعة التكرير صناعة الاغذية والورق وصناعة الادوية وصناعة التجميع وصناعة مواد البناء والزجاج والصناعات الكيمياوية والاستخراجية والتعدين الى درجة كانت تشكل شبه اكتفاء ذاتي في بعض السلع ، ويمكن لهذه الصناعات ان تستوعب ملايين الخريجين والعاطلين عن العمل وخريجي الدراسات المهنية اذا اعتمدت السوق المحلية

كمستهلك بالأخص صناعة الهواتف النقالة والكهربائيات ومواد البناء والعقاقير الطبية والسلع الاستهلاكية الاخرى، ولابد ان يكون اسلوب الصناعات الجديدة مبني على الجودة والمنافسة.

4-المورد الزراعي: وهي الحاضر الغائب في المشهد واكثر ما يراد الاسراع بالبدء بها بطرق واساليب حديثة وخطط زراعية لإنتاج محاصيل استراتيجية، ولا داعي للتذكير بـأن معظم العراقيين من اباء واجداد مزارعين اكلوا ما زرعوا وان اكثر من نصف مساحة وطنهم يمكن زراعتها باستثناء ما يمكن استصلاحه من مساحات اضافية ما زالت تنتظر من يعيد لها الثوب الاخضر، اذا ان هنالك امكانية واقعية لاستصلاح مساحات شاسعة من الاهوار والاراضي الصحراوية والمساحات المتروكة او زراعتها بالزراعة الملحية، خصوصاً واننا نتحدث عن ملايين الدونمات يمكن استثمارها بزراعة محاصيل استراتيجية كالقمح والشعير والذرة وقصب السكر ومحاصيل العلف الحيواني.

5-مورد الرعي وتربية الحيوانات وهذه الحرفة لم تؤخذ القسط الكافي من الاهتمام وكانت ملتصقة بحرفة الزراعة بينما يمكن توسيع العمل بالرعي بشكل مستقل في مناطق واسعة من الهضبة الغربية واراضي التلال وضفاف الانهار وانشاء معامل الالبان والصناعات النسيجية والجلدية بالقرب من المناطق الرعوية ، فضلاً عن توسيع حرفة صيد الاسماك والطيور وتربية الدواجن ضمن مشروعات كبيرة ومنظمة بقصد التصدير.

6-المورد السياحي: ان للعراق تاريخ سياحي منذ 1940 في استقدام السواح الى المصايف لكن ملف السياحة لم يأخذ مداه المؤمل، ولنركز على السياحة الدينية لأنها تحتل المرتبة الاولى من انماط السياحة العراقية »بنسبة 80 % تليها (السياحة الثقافية والأثرية بنسبة 15 % ثم تأتي سياحة الأعمال بنسبة 5»%، وهي من اكبر المدخولات المالية اذا وضع لها استراتيجية واضحة وبيئة سياحية حاضنة، اذ يعتمد عليها 544 ألف شخص بنسبة 3 % من الناتج المحلي لعام 2017، ويكفي ان نشير الى مردود السياحة الدينية مؤخرا كانت بعوائد مالية تراوحت بين (1- 5 مليار دولار)(⁕) بمتوسط نسبة 3.6 % من اكبر عائد نفطي للعراق وهو 83.7 مليار دولار في 2018 ، تأتي من المزارات الشيعية في النجف وكربلاء وبغداد، وقد لا نتصور حجم المدخولات الهائلة والمردودات الكبيرة اذا تم تنمية هذه السياحة ورفدها بمواقع وانشطة سياحية رديفة وخدمات فندقية وتطوير البنى السياحية المهملة، ومن اهم مزايا السياحة الدينية انها تخدم قطاعات محلية عديدة تبدأ من استيفاء منح تأشيرات ملايين الزائرين سنوياً ونقلهم واسكانهم وتبضعهم وتنقلاتهم.

7-مورد تحلية المياه البحرية وانتاج الطاقة الكهربائية من الاشعة الشمسية وطاقة الرياح (الطاقة الخضراء) وهي من الانشطة الممكنة جدا في العراق هي ضرورة في مع تنامي الضغط على موارد المياه السطحية من قبل دول المنبع.

ان الباحثين بالشأن الاقتصادي يدركون ان آلية التعامل مع المتاح من موارد يجب ان يكون مبني على خطط تنموية وطنية قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، كما يستلزم ذلك اعتماد الاستدامة والحداثة في اساليب الاستثمارات الزراعية والصناعية والتعدينية والخدمية وهذا سيكون ثقيلاً علينا ان بقينا بجمود الهمم وعدم الاهتمام بالقدرات الابداعية وتهميش العقول والتمدد في ساح الملامة على بعضنا، فلا متسع من الوقت للتراخي والتسويف في مواجهة التحدي الاقتصادي الاكبر في قادم الايام.

……………………………………………

(⁕)حسن، محسن (2018)السياحة الدينية في العراق: الواقع والمأمول -دراسة وصفية- مركز البيان للدراسات والتخطيط، بغداد 32 صفحة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here