وصية (قصة من الادب الاوكراني )

ترجمة : فدوى هاشم كاطع – البصرة

بقلم : اوليغ سينتسوف Oleg Sentsov

كلنا سوف نموت ، وانا لسوء الحظ لست مستثنى من ذلك . كلنا نتمنى ان تمتد أعمارنا لفترة اطول قليلا … ولحسن الحظ انا لست مستثى من ذلك ايضا ! كلا ، انا لا اريد ان يطول عمري ليبلغ مائة عام ، اقضي الربع الاخير منها اماطل في صحتي المعتلة على اجهزة وعقاقير شتى .اتمنى ان اعيش مرحلة الشباب ، بل حياتي كلها اطول قليلا ، لأستمتع بالحياة وافيض بالمتعة للاخرين . ان امشي والافضل ان اركض ، اخلد الى النوم ليلا او ابقى مستيقظا . اريد ان اكون انا من يقرر ذلك وليس الكائن الحي الذي امثله او اطبائي .

هذا شكل الحياة الذي اود ان يكون اطول قليلا ، لكنه امر غير ممكن فكلنا الى الموت راجعون ، وبعد وفاتنا كلنا سوف نتحول الى كتل من اللحم العفن ، وندفن على عمق عدة امتار تحت الارض . سوف تأكلنا الديدان . و سوف يزورنا الاوفياء من الاقارب والحزن المزيف يغطي ملامحهم . يقفون قبالة الصليب او شاهد القبر ينظرون الى صورنا ناسين تماما ان الصلبان قد غرست عند قدمي الشخص الراحل . يقف الجمع الزائر الحزين عند رأسه محدقين بمحبة على الصورة المطبوعة على الغرانيت . بعدها سوف يأخذون ما يلزمهم ويخرجون ، بعد ان يكونوا قد تناولوا المشروب بما فيهم الفقيد الذي لم يتبقى منه حينئذ الا القليل ، اما الورود فسوف تزهر وهي علامات رثاء ومعتقدات خرافية وطقوس وثنية لا فائدة منها .

لا اريد ان يدوس الناس على رأسي حتى بعد وفاتي ، ولا اريد ان يتذكرني اطفالي واحفادي صورة مطبوعة على لوح من الغرانيت . لا ارغب في سهر المعزين عند جثتي قبل دفنها . وبشكل عام انا لا اميل الى لفت الانتباه الى نفسي ، ليس الان فحسب بل حتى بعد مماتي . انا لا اريد قبرا !

حين كنت طفلا ولم ابلغ السنة الخامسة من عمري بعد ذهبت الى جنازة جدي . و في العادة لا يتذكر الاطفال انفسهم في ذلك العمر الا بعض الاحيان فحسب حين يتعلق الموضوع باحداث استثنائية في ذلك الوقت . لكنني اتذكر تلك الجنازة . في الواقع لا اتذكر منها الا الشق الرئيسي : وقوفي عند حافة القبر على كومة من التراب بصحبة اقاربي . وبعد انتهاء الجنازة اصبت بالذهول حين اكتشفت انهم لن يستخرجوا جدي من تلك الحفرة ثانية ، لقد مات وانتهى الامر الى الابد . وخلال فترة طفولتي كلها راودني ذلك الكابوس مرارا وتكرارا …فقد كنت ارى قبرا اسود مسجّى فيه جسد مغطى بكفن ابيض . كان ذلك جسد جدي ، ولكنني تخيلت انه جسدي واعلم علم اليقين ان الامر حاصل لا محالة عاجلا ام اجلا . لا تسطحبوا اطفالكم الى جنازة ابدا !

في طفولتي كنت اهاب الموت ، اما الان فأنا لست خائفا و اعلم انني سوف اموت . كنت اخاف من القبر الاسود ، لكنني الان لا اريد ان استلقي فيه !

كلنا سوف نموت ، كل بطريقته الخاصة ، فالبعض سوف يموتون بهدوء تام مثل اغلاق باب غرفة نوم طفل قد خلد الى النوم تواّ ، واخرون سوف يموتون بعد صراخ ومعاناة وكأن ذلك يحصل اثناء الولادة . لا اعلم كيفية حصول موتي ، ولكنني بالتأكيد لا اريد الموت مثل رجل عاجز في فراشه وكبير في السن محاطا بأقاربه المتثاءبين في ضجر . في مرةٍ سؤل رجل عن الطريقة التي يتمنى ان يموت فيها فأجاب :” مع سلاح متدلٍ على كتفي وفم مليء بالدماء وانا اهتف هتاف ابتهاج ومرح ! انه لشيء جميل ورجولي . لكن الحقيقة غير ذلك ، ارغب في ذلك كثيرا فألابطال لا يموتون بشكل جميل الا في الافلام والكتب ، اما في الحياة الواقعية فهم يتبولون دما في ملابسهم ويصرخون من الالم ويتذكرون امهاتهم ” .

لا اريد قبرا ، بل اريد ان يتم احراقي ، ليس في احد المواقد التابعة الى محكمة التفتيش بل في محرقة الجثث . اتمنى ان أُحرق وينثر رمادي في البحر ، في البحر الاسود ان امكن وفي الصيف حين تكون الشمس مشرقة والرياح نشطة . ولكن حتى لو حصل ذلك في فصل الخريف ومع هطول الامطار لا بأس في ذلك ! لا اريدكم ان تنتظروا حتى حلول الصيف في حال انتقالي الى جوار ربي في شهر تشرين الثاني ، والاّ سوف يحل عليكم الضيوف ويتسائلون ( ماذا تحتوي تلك المزهرية الموضوعة هنالك ؟ ) ، ( انه جدنا ، ينتظر حلول الصيف ) . ويجب ان تقوموا برمي المزهرية في البحر ايضا ولا داعي للاحتفاظ بها بعد ذلك . وبعد مرور عام سوف يزوركم اقارب اخرون ، سوف يتسائلون ” لماذا تحتفظون بتلك المزهرية ؟” وتجيبون : ” جدنا فيها ” . في هذه الحالة لماذا لا نقوم بتعليق جواربي وسراويلي حول المنزل ؟ تلك المفضلة لدي واخر ما ارتديته منها ؟

ارغب ان احرق حتى اتحول الى رماد ، وان ينثر الرماد في الريح ومن ثم الى البحر والافضل ان يكون ذلك في فصل الصيف لو وافتني المنية في الصيف ! وتأكدوا ان تنثروا الرماد في الريح بعيدا عن القارب كي لا يضطر احد الاحفاد ذي الخدود الممتلئة ان يعلق وهو ينظف بقاياي : “لقد اتعبنا بمشاكله ذلك الرجل العجوز !” .

دعوا الريح تحمل رمادي الى البحر في جو ممطر ان كنت محظوظا ! سوف يقول الجميع “بما ان الجو ماطرا فنحن نقوم بدفن رجل طيب ” ، لكن يا اصدقائي انكم لن تدفنوا بل تنثروا وتنفخوا الرماد ! امنيتي ان تمطر السماء وان يعلق بعض الرماد وان ذات الحفيد ممتليء الخدين سوف يرى القليل من بقايا الرماد في الجرة ويقول ” نعم ان جدي ما زال عالقا في الجرة ” هذا امر رائع ايضا ! ارموا الجرة في البحر ايضا ، بحيث لن يتبقى مني شيء ابدا سوى الذكريات والاشياء التي فعلتها واصدقائي وانت وعندها سوف اكون دائما معك .

اضاءة :

الموت والحياة ليسا خيارنا فكلاهما امر محتوم ومفروض على المرء متى يولد ومتى يموت ، ولكن من منا يفضل ان تنقطع ذكراه من الحياة بعد موته وان ينقطع ذكره ويمحى اسمه ؟ هذا ما رغب فيه كاتب الوصية

في هذه القصة ! صب الكاتب معاناته في هذه القصة معبرا عن رغبته الشديدة في تركه الحياة دون ان يترك اي اثر يذكر له . (المترجمة)

اوليغ سينتسوف :

ولد في عام 1976 في شبه جزيرة القرم في اوكرانيا لأسرة متعلمة . تخرج في الجامعة بأختصاص (التسويق ) ، و درس الاقتصاد في احدى جامعات مدينة كييف وبعدها شارك في عدة دورات لاخراج الافلام وتصويرها في روسيا . عمل في العديد من المهن في السوق لكسب العيش . شارك في المظاهرات الشعبية التي اطاحت بالرئيس الاوكراني السابق عام 2014 . اعتقلته القوات الروسية في شبه جزيرة القرم لدى اجتياحها لها عام 2014 . حصل على جائزة ساخاروف عام 2017 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here