“رجل* الدولة” و “رجل السياسة”

د. دياري أحمد مجيد
في الكثير من الاحيان وعندما نتحدث عن السياسة ونتناقش بها، نستخدم مصطلحات كثيرة دون الاكتراث للفروقات والتباين بينها، و خاصة المصطلحات القريبة من البعض والتي نقولها كمرادفات لبعضها البعض. أما عندما نفكر ونتعمق ونسأل أنفسنا عن معانيها والغرض في استخداماتها، نرى ان هناك فرق وتباين كبيرين في الكثير من النواحي الخاصة بها، ولكننا نجهل ألاجابة عليها.

على سبيل المثال هناك فرق بين معنى وفحوى رجل الدولة، أي (state man) بالانكليزي و رجل السياسة، أي (politician) بالانكليزي. نعم نستخدم المصطلحين للتعبير عن المسؤولين الكبار في الدولة و القادة القائميين على الامور السياسية.

في الحقيقة يواجه معنى وفحوى هاتين المفردتين مشاكل كثيرة، لانه وببساطة رجل الدولة هو سياسي و رجل السياسة يسعى وراء الوصول الى اعلى قمة في السلطة ليصبح “رجل الدولة”، ولكن مع هذا هناك فرق بين العمل و الهدف والرسالة التي يحملها كل منهما. وان هذا الفرق تقوم بتحديده عناصر مختلفة منها شخصية الانسان و النظام السياسي السائد والعصر الذي يعيش فيه.

ان جميع الباحثين في العلوم السياسية عندما يوصفون السياسة يتفقون ويقرون بان الغاية الاساسية للسياسيين و رجال السياسة هو الوصول الى السلطة والعمل بها و الحفاظ عليها، ويعتبرون هذا الهدف العنصر الاساسي في السياسة ومسألتها المركزية. ان افلاطون وأرسطو عندما يصفون ويحللون السياسة، يتحدثون عن الاشكال المختلفة للسلطة و الانواع المتباينة للانظمة الحاكمة “لدولة المدن” (city-state) اليونانية القديمة، و يصنفانها على اساس التباين في نوعية قوانينها، الصحيحة والخاطئة. ولكن نيكولو مكيافيللي هو اول مفكر سياسي تحدث عن القوة و ماهية السلطة في كتابه (ألامير)، إذ وصف السياسة على إنها العمل والنضال من أجل الوصول الى السلطة وإستخدامها وكيفية الاحتفاظ بها. ابتعد مكيافيللي عن النظريات التي تحدثت عن انواع السلطة والانظمة السياسية والشكل الذي يستوجب على السلطة ان تكونه، بل اشار وبكل صراحة و واقعية الى حقيقة ماهية السياسة واهدافها كما هي.

في عصرنا هذا، الهدف الاساسي للسياسة والسياسيين هو الوصول الى السلطة أيضاً، ولكن في الانظمة الديمقراطية الحقيقية و “الصحية” فان الوصول الى السلطة يمر عبر الاقتراع وصناديق الانتخابات ومنح ثقة المواطنين للسياسيين، لذلك فان “رجل السياسة” عندما يصل الى السلطة ويريد ان يصبح “رجل الدولة” ويوصف بصفات رجل الدولة، يجب عليه ان لا يفكر بعد هذا في كيفية الفوز في الانتخابات القادمة ويظل يتصرف مثل رجل السياسة، وإنما يبدأ العمل من أجل تأمين مستقبل أفضل لبلده وشعبه من خلال تطبيق البرامج التي من شأنها انقاذ البلد من أزماته المختلفة والنهوض به الى مستقبل أفضل. ومن الجدير بالذكر ان هذا التوجه هو بحد ذاته يوفر الضمان لاعادة انتخابه و حصوله مرة أخرى على ثقة الشعب وفرصة بقائه في السلطة. أي بمعنى آخر ان رجل الدولة لا يفكر في نوعية البرامج الانتخابية القادمة وكيفية الحصول على الاكثرية بمنهجية الاحزاب السياسية، وإنما يعمل من خلال البرنامج الحكومي وخدمة البلد والشعب لتامين البقاء في السلطة. أما السياسيون وكطبيعتهم يستمرون في العمل و المحاولة الى الوصول الى السلطة ليصبحوا رجل الدولة في يوم من الايام.

يكمن الخلل في البعض من المجتمعات، بان السياسي يتمكن من الوصول الى السلطة، ولكنه لا يصبح رجل الدولة حسب الاوصاف التي ذُكرت في أعلاه، لان هاجس الخوف من فقدان السلطة يجعله يبقى رجل السياسة دون الرقي الى مستوى رجل الدولة، إذ يبدأ بالتفكير والتخطيط من أجل الحفاظ على السلطة باية طريقة واسلوب يراه يحقق له ذلك. بالاختصار ان ما يفرق رجل الدولة عن رجل السياسة هو ان رجل الدولة فيما يفكر في كيفية خدمة بلده وشعبه، يفكر رجل السياسة حتى وان وصل الى السلطة بكيفية الحفاظ على السلطة ولا يتمكن من اكتساب صفات رجل الدولة ويصبح مثله، هذا هو الفرق بين رجل الدولة و رجل السياسة.

ومن الجدير بالذكر ايضاً، ان احدى الخصائص البارزة والملفتة للنظر في عملية التحول من رجل السياسة الى رجل الدولة، هي ان التاريخ يحدثنا عن امثلة كثيرة حول رجل السياسة الذي لم يتمكن من الوصول الى السلطة، ولكنه انتهز كل فرصة متاحة وتصرف مثل رجل الدولة وعمل من أجل خدمة وطنه وشعبه متخذاً أفضل البرامج والانظمة الخدمية للرقي ببلده ورفاهيته دون التفكير في المال والجاه والسلطة. أما في نفس الوقت فهناك سياسيين تمكنوا من الوصول الى أعلى سلطة و اعتبروا انفسهم “رجل دولة” ولكنهم ظلوا يستغلون منصبهم في خدمة مصالحهم الشخصية والعائلية والفئوية الضيقة ولم يكتسبوا اي صفة من صفات رجل الدولة الحقيقية ولم يتركوا ورائهم اي اثر يحتفى به أو فخر و اعتزاز يذكر.

يجب ان لا ننسى ان نذكر دور العصر و احداثه الذي عاشوا وعملوا فيه رجال السياسة والدولة، إذ هناك شخصيات كثيرة وكبيرة في التاريخ ساعدتهم الظروف الملائمة ليصبحوا رجل الدولة وان ينقذوا وطنهم وشعبهم من ويلات أزمات كبيرة وجعل مستقبل أفضل ينتظرهم واصبحوا انفسهم رمزاً وطنياً يحتفى بهم، لانهم تمكنوا كسياسيين وفي نفس الوقت كرجل الدولة من وضع برامج عمل كبيرة وإستغلال الفرص في الوقت المناسب من أجل بلدانهم وشعوبهم، وفي نفس الوقت تاميين الطريق للوصول الى السلطة والبقاء فيها بتفويض من الشعب.

والسؤال هنا إذا كان تقييم أداء رجال السياسة عندنا على ضوء ما تقدم وعلى أساس شخصيتهم والظروف التي عملوا فيها، هل نجد سياسياً تمكن من لعب دور السياسي ورجل الدولة في آن واحد، ويمكننا ان نسميه برجل الدولة الحقيقي؟، أم نحن نعيش في زمن انتهى فيه عصر رجال الدولة الحقيقيين و ان التاريخ غير قادر على صناعتهم ؟.

تنويه:*
ان استخدام كلمة الرجل في المقال ليس بمعنى العنصر الذكوري، وإنما القصد منه ضمير الشخص المجهول مثل الفرق بين كلمة (Man) و (Mann) في اللغة الالمانية فالاول تدل على ضمير الشخص المجهول والثانية على جنس الذكر. مع الاسف ليس هناك مجال لتغير كتابة احدى الكلمتين، لوضع الفرق بينهما في اللغة العربية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here