قراءة في نص من كتاب الصابئة المندائيين

قراءة في نص من كتاب الصابئة المندائيين

في القسم الايسر من كتاب (الكنزا ربا) او (الكنز العظيم) للصابئة يرد في الكتاب الاول – الجزء الثاني قصة و حوار يحوي مضامين رائعة ، حيث تبدأ القصة ببعث رسول الى آدم لكي يخلصه ويحرره من الجسد ومن العالم الذي يعيش فيه و يرفعه من الارض .

هنا تبدأ (نيشمتا) اي روح ادم بحوار مع عقله و جسمه (العفن) كما يصفه المقطع و يؤكد على ذلك الوصف في الفقرات اللاحقة و تحتج نيشمتا بقولها (لماذا نجلس نحن هنا و ها نحن لم نزود انفسنا بقوت السفر كمتاع على طريقنا الذي سوف يفضي بنا خارج هذا العالم؟ لن يمضي وقت طويل حتى يأتي المخلص الينا من اجل ان يخرجنا من هذا العالم) و تؤكد الفقرات اللاحقة ان العقل و الجسد ظلا صامتين امام كلمات الروح و لم يردا عليها حتى اتى (المخلّص) اي ملك الموت الذي يخلص الروح من الجسد العفن .

ان هذا الحوار يحمل ايحاءاً مصاغاً بصياغة مخاطبة و حوار بين ثلاثة تتمظهر لكينونة واحدة فالروح (نيشمتا) تريد فراق الجسم و تنزع الى الارتقاء عن عالم الارض المليء بالالام و الفضائع و المسكون من الشياطين و الكائنات الشريرة البعيدة عن عالم النور ، و فيما تكابد الروح التي تنتمي الى عالم النور و عالم الفوق للتخلص من الجسم العفن يبقى العقل و ذاك الجسم ساكتين امام حوارها (و لكأن هذا الحوار يكشف عن مكانة الروح و العقل و الجسم في الادبيات الصابئية)فيقرر في فقرة لاحقة ان (كليهما لم يردا عليها بالجواب) و مع ذلك فقد (ظلت تتحاور و تتداول مع العقل و الجسم العفن ) حتى اتت تلك اللحظة الفارقة و الرهيبة حيث دنا (المخلّص) و اوقظ ادم من نومه (استيقظ استيقظ يا ادم اطرح عنك جسمك العفن ذلك الثوب من الطين ….) و يستمر التوصيف الذي يحاول التهوين من عالم الدنيا و عالم الجسم حيث لا يمل من وصفه بالعفن ثم يرّغبه بعالم النور (ان عروجك سوف يكون باتجاه مقام الحياة باتجاه المكان الذي سبق لك وان كنت انت قد مكثت فيه في سالف الزمان…) وهنا لا يخالف هذا النص القصة القرآنية لسكن ادم في الجنة قبل نزوله الى الارض كما هو واضح في النص.

(عندما سمع ادم هذا الكلام جعل يبكي ويتحسر على ذات نفسه …) هكذا يصور الكنزا ربا المشهد و يستمر في بيان احتجاجات ادم و اعتراضاته على فراق الدنيا و فراق الاهل ، انه ليس حوار ادم و رسول السماء بل هو حوار الموت و الحياة هو حوار دائم و مستمر يتكرر بتكرر تجربة أزوف الموت و اقتراب اجل ابن ادم انه حوار الإخلاد الى الارض و الإرتقاء الى السماء .

يتكرر الحوار و تتعدد اعتراضات ادم و اجابات الرسول و المخلص فلحظة الموت تستحق ذلك الترديد انها لحظة فارقة… لحظة انتقال صعبة … لكن الكنزا ربا لا يجعلها كذلك فحسب بل يسوقها كلحظة (خيار) و ذلك ابداع حقيقي في جعلنا نتفكر ان لحظة الموت يمكن ان تكون اختزال لكل لحظات حياتنا فهي تكشف عن خيارنا خلال سني اعمارنا هي ليست لحظة انتقال و عبور بقدر ما انها تتويج للحظات العمر التي سبقتها .

ويستمر اعتراض ادم فيقول (يا ابتاه اذا كنتم قد علمتم بان الامر هو كذلك فلماذا غرّرتم انتم بي و وضعتوني في داخل الجسم العفن) و لكأن ادم الذي يأبى تقبل فكرة الموت و الفراق قد غُرر به و سجن داخل جسم عفن و لكأنه اكتشف انه شيء اخر غير ذاك الجسم العفن فيؤكد (وضعتوني داخل الجسم العفن) فهناك شيئين متمايزين مختلفين (انا) و ذلك الجسم العفن.

يرد الرسول المخلص ان الجسم (النتن) هو سبب الالم و البلوى و انه (هل يوجد ثمة جسد في دار الحياة ؟ ان الجسم لا يرتقي صاعداً الى دار الحياة) فعالم الدنيا اذن مختص بالجسم و دار الحياة و عالم النور لا يمكن ان يطئه فذاك عالم الارواح (نيشماتا) .

و ما دام لا بد من الموت فان ادم يطلب ان تأتي حواء معه تؤنسه و تسكن قلبه في الطريق و هذا النص يبين وجود تلك العقيدة في ذهاب الزوجة مع زوجها الى الموت كما في بعض الديانات كالهندوسية و ما كان من حواء الا ان عبرت عن رغبتها في الذهاب مع ادم في رحلته الى دار الحياة ، لكن المخلّص يقرر انها لن تذهب معه و ان (هناك سوف يحاسب كل فرد وفق ما كان هو قد فعله و قام به) وهي عقيدة تجد صداها في آيات القرأن بكثرة اذ يقول ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) كما يخبر ادم ان علائقه الدنيوية لن تنفعه (ما فائدة ان يكون لك اخوان غير مخلصين) و ان علائقه الحقيقية هي مع (الاثري) اي الملائكة في دار الحياة .

(ان الطريق الذي سوف نسلكه نحن معاً هو جد بعيد و بدون نهاية) ذلك هو وصف الطريق الى دار الحياة حيث الرقي لا ينتهي و الكمال لا يحد .

لم يتمالك ادم نفسه و اخذ يبكي و يرثي حاله و هكذا خرجت نفسه و ارتقت مع المخلص و يبدأ كل شيء بالتغير حيث تسمو روحه و تصير كالعصفور او الاسد (ادم مضى في طريقه و تكلم قائلاً ويلٌ ويلٌ اذا غرر بي اخواني و ابعدوني عن وسطهم وجمعهم اذا قذفوا بي بالقوة في الجسم العفن …..) فالنص يشي بوجود ارادة لأبعاد ادم و تغرير به و تزيين لعالم الارض في عينيه.
هكذا يسرد الكنزا ربا حوار الموت و الحياة و يوثق صعوبة تلك اللحظة عبر تصوير المفاوضات الشاقة بين ادم و المخلص الموكل بأخذ نيشمتا و الرقي بها عبر السماء و ترك الجسم العفن في الارض و يؤكد ان لحظات ما بعد الموت ستكون حلوة المذاق وليست مخيفة و صعبة و هو بذلك يجعل تلك (الرحلة) نحو دار الحياة مرغوب بها ومحببة الى قلوب المؤمنين حيث يتغير انطباع ادم بمجرد ان ترافق روحه المخلص.
يبقى للكلام بقية في تلك القراءة المقتضبة و المضغوطة لذلك النص الثري و العميق في رمزيته و اشاراته.

اياد نجم
٩-١٢-٢٠٢٠

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here