ما هي العقلانية ؟

ما هي العقلانية ؟

في زمننا يبدو أن العقل فقد مكانته ، أو على الاقل اغلب مواقعه ، فهو ما عاد ينظر له ، على أنه ، في نهاية المطاف الحكم الاخير فيالقضايا المستعصية ، وإنما بات لقوة المكانة التي احتلها العقل في عصر صعود العقلانية ، وأصبحت القوة هي من تقول كلمة الفصل ،والقوة ، هنا ، يجب أن تفهم بالقوة المحضة ، التي تخلق كل أشكال العقلانية ، والتي تجعل من لا عقلاني عقلاني ومعقول لفترة ، فالقوة هيلحد الآن من كان يقف خلف القوانين والتشريعات ، فمنطق القوة يسبغ العقلانية على لا معقول القوة المحضة مع طول الممارسة والاستخدام، مثلما جعلت لا معقول الدين عقلي بطول الممارسة والوجود ، ولكنه يضحى بعد مفارقة القوة له لا معقول ويتسأل البعض ، بعد حين ، كيفساد هذا لا المعقول كل هذه الزمن . ولكن ، العقلانية ، التي تدعو إلى أستخدام العقل وليس القوة في فهم الوجود ، ليس هي نتاج القوة التي تجعل لا معقول معقول بطول الممارسة للقوة ، وأنما هذا العقلانية ناتجه عن استخدام العقل كاعلى ملكة يتميز الإنسان بها . فما هي هذه العقلانية ؟ في هذه المقالة سنبين ما هي عند عدد من كبار العقلانيين ! والعقلانية ، التي سنعرضها هنا هي ، العقلانية من وجهة نظرفلسفية فقط ، وليس العقلانية السياسية ، أي مفهوم العقلانية من وجهة نظر فلسفية خالصة . وكذلك لن نبدأ بتعريف العقلانية ، لانها متنوعهولها مدارس مختلفة ولهذا سنعمد لعرض وجهات نظر كبار العقلانية وتاريخها والنظرات التي نظر لها بها .

(١) وقبل كل شيء علينا أن نشير هنا أن العقلانية تختلف عن الالحاد ، فقد نظر لها على أنها بطبيعتها ملحده ، وهذا اعتقاد خاطى ، لأنكبار الفلاسفة من يعدون مؤسسيين لها كانو مؤمنيين ، ديكارت ، ليبنتز ، سبينوزا ، العقلانية حاربت الاساطير والخرافات . ولعل غير خير مايمكن أن توصف فية هو النزعة الانسانية أو المادية . وبما أننا هنا نتعامل مع العقلانية كنزعة فلسفية ، فهي من هذه الناحية ، تخلف أيضاًعن العلمانية ، العقلانية ، أتجاه المفكرين الاحرار ، الذين يحاولون بلوغ الحقيقة عن طريق الجدل العقلي . فهناك الكثيرين من هؤلاء المفكرينالذي لديه النزعة العقلية ، ولكن أتجاه الفكري لا يحسب على العقلانية ، مثل برنارد رسل ، وميل ، ولوك وهيوم ولكنهم ، يحسبون علىالمذهب التجريبي . وعليه يجب هنا عدم النظر إلى العقلانيين على أنهم أولئك الذين يصرون على عدم وجود الله كما شاع في عصر العقل .

(٢) والعقلانية ، لا تهتم في الدرجة الاولى بوجود الله أو عدمه ، وأنما تشدد على القدرات العقلية والأيمان بالعقل والحجج العقلانية ، فهيمستمدة أو مشتقه من العقل . فالايمان بقيمة العقل وأهمية الحجج العقلية تتطلب في كل بحث واستقصاء . ويعد سقراط في هذا المجال ،أول من ذهب في تتبع الحجج إلى نهايته وإلى حيث تقود بدون خشية من أن تتعارض مع الافكار السائدة والمتعتقدات الرسمية ، فهو يطالبنابنقد وتحليل كل الافكار والمفاهيم بشكل نقدي ، فعلى حد تعبيره الحياة التي لا تفحص لا تسحق أن تسمى حياة ، هذا الشعار الذي رفعهسقراط أدى بنهاية به إلى الموت ، الذي فضله على عدم ممارسة النقد وتتبع الحجج حتى نهايتها المنطقية ، ولذلك أستحق عن جدار أن يعتبرأبو العقلانية . وجاء بعد سقراط ، أرسطو الذي ميز الإنسان باكائن ذي الطبيعة العقلية ، وأن الإنسان حيوان عاقل ، فهو أي الإنسان لايتغذاء فقط مثل النبات ، أو يتحرك مثل الحيوان ، ويتمنع بحواس يميز بها الإشياء ، وإنما ، فوق هذا له عقل يفكر ويتعقب ترابط الأشياء ،فنحن لنا قدرة على تنظيم التفكير بشكل عقلي منظم ومترابط ، والتي تميزنا عن بقية المخلوقات الأخرى . وفي كتابه الاخلاق ، يذهبأرسطو إلى ما هو أبعد من كون الإنسان كائن عاقل ، بأن سعادة الإنسان تكمن في التفكير النظري والمجرد وقابلية التعقل .

ومعاير العقلانية أو مبادئها هي الدقة المنطقية ، والترابط ، والاتساق ، أي أتباع الحجج حتى نهايتها ، وتلك المبادئ لم تنال قبول شامل ،فقد رأى فيها البعض تهميش لبقية ملكات البشر الأخرى من عواطف وغرائز ، وخير من يمثل هذا الرفض لها في العصر الحديث هو نيتشهالذي طالب في التوازن بين كل من دينوسوس أله مملكة الأعماق والغرائز والجوانب المظلمة عند الإنسان وأله العقل أبولو ، الذي يمثل النوروالحكمة ، وطالب في قامت توازن بين الغرائز والعقل وليس تغليب جانب على حسب الجوانب الأخر ، كما فعل سقراط الذي يعده نيتشهممثل إلى الانحطاط في الحضارة الغربية لكونه غلب العقل على بقية الجوانب الأخر من الأنسان . وذلك نجد نجد نيتشه يركز على دمامةوقباحة خلقته وشخصية سقراط ، ليرمز بها ، لفداحة تسليط العقل على جوانب الإنسان الأخرى من عواطف وميول لا معقوله تمثل نزعةدينوسسوس أله الخمر والشراب والغرائز المنفلته، لأنها في نظر جزء من حياة الإنسان ، وهناك أيضاً هيوم الذي قال بأن العقل خادملعواطف والغرائز . وحقيقة ، هناك الكثيرون الذين هاجموا العقل ، ولم يعتبروه أداة مثالية في المعرفة ولا في تحصيل السعادة ، مثلكيركجارد ، وبسكال الذي قال أن للقب شؤون لا يعرفها العقل ، وكذلك، فرويد الذي عد العقل خاضع إلى لا وعي ، أما البير كامو فقد قالفي العبث ، وأن الكون لا يسير وفقاً للقوانين العقل . وعليه يجب عدم المبالغة في دور العقل ، وأن ، العقلانية جاءت نتيجة ظروف تاريخية ،وليس لكون العقل هو فعلاً أداة مثالية في بلوغ الحقيقة . وأن الإنسان عقلاني بالطبيعة والفطرة .

(٣) وهناك ، مع ذلك نوعين من العقلانية ، عقلانية لا غنى عنها في تحصيل الحقيقة وجعل التفاهم بين البشر ممكن ، لأن المذهب الذي يرفضالعقلانية بشكل مطلق ، يجعل من الصعب الوصل للحقيقة ، ولعل معاير العقلانية بشكل عام هي التي يلتزم بها أغلب الفلاسفة حتى ولو لميكونو عقلانين ، وهذا المبادئ التي ذكرنا سابقاً ، أي الدقة المنطقية ، والأتساق والترابط هي ما يجب الالتزام بها . فالعقلانية بشكل عامنلاحظ لدى فلاسفة لا يحسبون على المذهب بالمعنى الصارم . فأرسطو ، مثلاً قدم إلى العقلانية الكثير ولكنه لا يحسب على أصحاب المذهببمعناه التقني القاطع . وكذلك يعد الكثير من فلاسفة عصر التنوير ليس من أهل المذهب العقلي الصارم ، فهم فقط أستخدموا العقل والحججالعقلية لدحض الخرافة ، أما أصحاب المذهب العقلي الصارم فيمكن أن نشير إلى ديكارت ولايبنتز ، لأن هؤلاء ، أعطى الأولية وبشكل كامللعقل وأهملوا الحواس والتجربة . ونحن لو نظرنا ، إلى رسل الذي قدم دفاع مجيد عن العقل ضد الذين يقولون بأولية الحواس والغرائز ، لايعده الكثيرون من اصحاب العقلانية ، بل يعبر في أكثر كتبه عن نزعة المذهب التجريبي . فنحن هنا نتحدث العقلانية فقط من وجهة نظرفلسفية بالمعنى الصارم إلى المصطلح .

(٤) لقد أوضحنا لحد ما العقلانية بشكل عام ، وأستخدام العقل في معالجة بعض القضايا ، وقلنا عنه أن هذا ليس هو العقلانية بالمعنىالتقني والصارم ، فالعقلانية بمعناها الصارم ، هي أسلوب فلسفي له سماته الخاصة التي يلتزم بها عدد قليل من الفلاسفة . هي بشكلدقيق ومحدد توضع دائماً على الضد من التجريبية ، وهذا التحديد يجب أن ينظر له بعناية ، حتى لا نقع في التبسيط ، ونظر على أن ثمةتعارض بين العقلانية والتجريبية على طول الخط ، ونقول كل ما هو غير تجريبيي فهو عقلانية وكل عقلاني هو غير تجريبي . لا أن المسألهأعقد من ذلك بكثير ، لكن المقارنة بينهما تبقى مفيدة وتوضح الكثير من مذهب العقلانية . فالتجريبية ، مستمدة ، من التجربة في ترجمتهاالانكليزية ، ورغم أن التجريبية يمكن تفهم بطرق مختلفة ، ولكنها في النهاية ، يمكن يعبر عنها ، بأنها تعد كل المعرفة البشرية مستمدة منالحواس ، والتجربة ، بعكس العقلانية ، التي تعطي الدور الرئيسي للعقل في تحصيل المعرفة وليس للحواس في بلوغ المعرفة . فالكثير منالعقلانيين يدينون الحواس كأعضاء لا يعتمد عليهم وينظرون لهم في شك وريبة . فكل العقلانيين يشددون على أمكانية المعرفة المسبقة ،والتي يمكن الحصول عليها بمعزل عن التجربة والملاحظة . وهذه المعرفة المسبقة ، يقول نقاد العقلانية لكي تكون موجوده يجب أن لا تستمدمن الحواس والملاحظة . ولهذا يقول التجريبيون ، بأن القضايا التي تعرف مسبقاً هي فقط هي القضايا التحليلية ، والفارغة ، المكررة ، مثلالأعزب غير متزوج . مثل هذه القضية تحليلية لا تحتاج سوى التحليل لغوي لتعرف ، فنحن نعرف أن مصطلح الأعزب يتضمن بأنه غير متزوج ، لذلك فهو لا يقدم أي معرفة جديدة عن العالم الخارجي ، بعكس المصلح التركيبي ، الذي يقدم معلومة جديدة عن الاشياء أو العالمالخارجي ، مثل المعادن تتمدد بالحرارة ، فالتمدد ليس كامن في تعريف المعدن . تلك هي التفرقه التي اقامها كانط بين المصلحات التحليليةوالتركيب، فالقضايا التحلية لا تقدم شيء جديد بعكس التركيبية . ولكن مع ذلك نرى العقلانيين ، على العكس ، يحتجون ، بأن ليس كل مايعرفوه بنور العقل ، عن العالم ، والطبيعة البشرية ، هو من هذا النوع ، الذي لا يقدم جديد . فالكثير ، من المبادئ والنظريات الرياضية عرفتبستخدام العقل وحده وعن طريق حدوسه .

(٥) وحقيقة أن هناك بعض التحامل يسود حالياً ضد العقلانية ، منذ أن حققت النزعة التجربية والعلمية نجاحات كبيرة خصوصاً لدىالمثقفين العادين من الذين تشربوا في النزعة التجريبية الأنكليزية ، وسوى كانت هذا التحامل أو الانحياز عن وعي أو بدون وعي إلى هذاالتحامل . فالمثقف العادي قد ستوعب منذ مدة طويل النظرة التجريبية للعالم وإلى المعرفة البشرية ، وخصوصاً في العلم الطبيعي ، فقد نظرإلى عمل العلماء على أنه في الاساس تجريبي ومستمد من الملاحظة وأنه الطرق العلمية يجب أن تربط بشكل صارم مع الملاحظة والتجربةبعيدً عن التنظير النظري المجرد ، وعليه فأن أولئك الذين ينظرون بهذه الطريقة إلى العلم يميلون إلى نبذ الطريقة العقلانية في التأملالخالص والنظري ، والبحث ، بعيد عن تجربة الحواس ، يعدون مثل هذه الاأسلوب في البحث مجرد أستبطان داخلي عديم القيمة ، وتحليقبعيداً عن العالم الحقيقي . وهذا الموقف من العقلانية من قبل الذين تشبعوا بالنظرة التجريبية يعد خير من عبر عنه في بداية النهضة العلميةهو فرنسيس بيكوين ، الذي شبه التحريين بالنمل الذي يجمع قوته من حوله ( المعلومات ) ويستخدمهم ، بينما العقلانيون هم مثل العنكبوتالذي يستخرج خيوطه من رأسه بدون حاجة لنظر مما حوله ، أما الصنف الثالث والذي يشبه في النحل ، فهو يقوم بتحويل ما يجمعه إلىشيء جديد . وحقيقة أن المعركة بين التجريبية والعقلانية لم تحسم إلى صالح التجربية والعلم كما يصور التجربيون ، فقد صور ت العقلانيةعلى على أنها نزعة ذاتيه وخياليه لا تستند إلى حقائق العالم الخارجي . بيد أن أغلب أدعاءات التجريبية ، والتي رافقت أنتصاراتها وتقدمهافي الثلاثينات لحد الخمسينات بدأت تتأكل وتفقد مصداقيتها ، وما عاد العلم ، في وقتنا الحالي ، كما يشير العلماء ، يعتمد على التجربهالمحضة والملاحظة ، ومن جانب أخرى ، نجد أن أدعاءات العقلانية راحت ينظر لها بجديدة وتؤخذ في الاعتبار مع التطور العلمي المتسارعوالذي لا يعتمد بشكل كامل على التجربة والملاحظة ، وأنما راح يعتمد على الخيال العلمي والتصورات المجردة . وما يجب أن يؤكد هنا ، فيمايخص التطور الفلسفي أن قضاياه ، التي ظن قد قد أنتهت مع أنتصار المذهب التجريبي ، والمنطقية الأيجابية لم تحسم في أي يوم مالصالح أي طرف متطرف .

(٦) ومع ذلك ، يبقى علينا أن نقول بأن ليس هناك عقلانية واحدة ، يمكن أن تعبر عن التنوع في النزعات العقلانية ، كما هو حادث مثلً فيالوجودية ، حيث هناك وجوديات متنوعه ، وجودية ملحدة ، وجودية مؤمنة ، مثلاً ، أو بين صفوف المثالية ، حيث هناك مثالية موضوعية وأخرىذاتية ، أو مادية علمية ومادية مثالية . غير أن يبقى ، بالطبع ، هناك ، تشابه وقسمات مشتركة أساسية بين أصناف العقلانية ، والتي تميزهمعن بقية الفلسفات ، ومع ذلك ، فمع أن دائماً ما تعارض العقلانية مع التجريبية وتعد نقيضها المباشر ، وأنهما فلسفتين متناقضتين ، فأن فيالحقيقة لا وجود لهذالتقسيم قاطع وحاد بين العقلانية والتجريبية ، فقد رأينا كيف رسل يعد عقلاني في كثير من المواقف ، ولكنه في النهايةيحسب على التجريبية ، فالتدخل بين تلك الفلسفات موجود حتى أن البعض دعى إلى ازالت هذه التقسيم الحاد بينهم ، بيد هذا التقسيميبقى مفيد في نواحي كثيره لمعرفة الميل العام في أتجاه فكري محدد . العقلانية ، كما قلنا ليس واحدة ، فاحداهما ، مثلاً تؤمن بوجودالأفكار الفطرية لدى الإنسان منذ ولادته ، بدون أن يحصل عليها من التجربة . واخرى ، تؤمن بأن يمكن الحصول على معرفة مسبقة بلا عونمن التجربة ، وثالثة تقول بأن من الممكن بلوغ المبادئ الاساسية لمعرفة عن طريق العقل ، أو تجد كل هذا الأدعاءات قد تجتمع في صنفأخرى من العقلانية . ورغم هذا التنوع في العقلانية ، فهي طريقة محددة في التفلسف ورؤية العالم . وهي في النهاية لا يمكن الأستغناء عنكل مقولاتها لأنها تجسد أعلى قيمة يتميز بها الإنسان عن بقية المخلوقات ، العقل ، والذي يجعل التفاهم بين الناس ممكن في نهاية المطاف . فإلى العقلانية تاريخ طويل ، حتى قيل أن العقل هو الذي يحكم العالم ، وقيل عن الله ذاته بأنه عقل ، ويمكن القول بأن حتى لا المعقول هوتمرد العقل على ذاته . وهذا المقدمة عن العقلانية سوف يتبعها متابعة لتاريخ العقلانية واهم ممثليها قديماً وحديثاً . فقد أردنا فقط أن نعطيفكرة عن العقلانية قبل الدخول في تفاصيل ذلك المذهب العريق في القدم ، رغم أنه لم يكن قد صيغ بشكله الحالي .

هاني الحطاب

(١)Rationalism , movements , and Ideas . John Cottingham

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here