اوربا تحصد ثمرات عصر النهضة * ح 7 الاخيرة

اوربا تحصد ثمرات عصر النهضة * ح 7 الاخيرة، د. رضا العطار

ان هذه الكوكبة من العلماء والادباء والموسيقيين والفنانين الفرنسيين، لم تظهر كنباتات طبيعية في غابات فرنسا صدفة، ولكنها نبتت واضاءت العالم هذه الاضاءات الوهاجة نتيجة للتحول الحضاري والثقافي الكبير الذي بدأته اوربا في القرون السابقة و دفعت، مثلما دفع العلماء والفنانون والكتاب ثمنا غاليا من اجله. استطاعوا فيما بعد ان يستردوا هذا الثمن اضعافا مضاعفة حين اصبح للمؤلفين مكانتهم المرموقة الكاملة في منتصف القرن التاسع عشر. ورُصدت الجوائز الكبيرة لاكثر الكتب انتشارا، ونشطت الصحافة التي اصبحت مصدر رزق كبير لكثير من الكتاب الذين شاركوا في الكتابة فيها.

ولم يعد المؤلفون بحاجة الى العيش في رحاب الامراء والاثرياء- – واصبح الثراء هم الرحاب الجديد للمؤلفين الذين يدعمونهم ماديا. فعاش معظم المؤلفين من ادباء وعلماء حياة كريمة من مردود مؤلفاتهم التي اصبحت توزع على نطاق واسع مع توسع الطباعة وانتشار الصحافة ووسائل الاعلام الاخرى – وتولت شركات تجارية كبرى دعم العلم والعلماء وبحوثهم العلمية المكلفة.

ومع انتشار المكننة على هذا النحو وتحول الانسان الى ما يشبه الألة في نهاية القرن التاسع عشر وانتشار السلوك المادي في نواحي الحياة المختلفة، بدأت صيحات النقاد الجماليين تعلو محتجة على ثقافة القرن التاسع عشر التي اصبحت في نظرهم (ثقافة غثة، قليلة القيمة) واصبح الانتاج الادبي عموما رخيصا وكريها – لان الالة الصناعية دفنت كل لذة في العمل الابداعي – كان الحرفي في الماضي يشعر بها وهو يبدع عمله.

كما لم يخل القرن التاسع عشر من هجمات اليمين المسيحي التقليدي ضد اسلوب الحياة في هذا القرن – وكان هذا الهجوم يتركز على مبدأ التنوير وعلى الطبيعة العقلية الخيرة – – – كما انتقد هذا القرن بانه اغفل الحقيقة الجوهرية وهي كون ان الانسان حيوان سياسي في غمرة حب المنافسة التجارية والتقدم العلمي.

كذلك بدأت الاصوات المنادية بالعودة الى حياة وحقوق الانسان البسيطة تتعالى من مكان الى اخر – وارتفعت اصوات تقول ان ازمة الحرية وازمة الديمقراطية في القرن التاسع عشر لا تحل الا بمزيد من الحريات ومزيدا من الديمقراطية الشاملة على حقوق الانسان ووجود الدساتير وحق الانتخاب وتناوب المناصب والتعليم الدنيوي الالزامي.

وعندما نعود وننظر الى الوراء – الى بلاد العرب التي تركناها خلفنا قبل قليل ونتأمل حالها وحال اوربا، كما نعرضها الان، فأي هوة سحيقة نستطيع ان نتخيلها يمكن ان تفصل بيننا وبين هذا التقدم الذي حققته اوربا – – ؟! – – ونقول اوربا ولا نقول امريكا او بلدان جنوب شرق آسيا – – ذلك ان مرآتنا الاخرى في هذه الدراسة هي اوربا على وجه الخصوص.

ان ما يحزن القارئ حقا هو اننا لم نع تماما هذا الوضع الذي كنا فيه منذ ثلاثة قرون ونيف الا بعد الحرب العالمية الاولى، وعندما بدأ المثقفون السوريون والمصريون يعودون من اوربا ويحدثوننا بكل صدق وصراحة من تقدم وازدهار اوربا وعن تخلفنا وجهلنا كما فعل رواد التنوير العرب في مطلع القرن العشرين وعلى راسهم طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما. الا ان الطامة الكبرى والمأساة العظمى حقا هي ان معظمنا كان لا يدرك منذ ذلك الوقت حتى هذه اللحظة رداءة الحال التي انتهينا اليها.

ان استعراضنا السابق لملامح المشهد الثقافي الاوربي في القرن الثامن عشر على هذا النحو الموجز كان غيضا من فيض – وما كان ذلك الا لنعي تماما، نحن العرب، ماذا كان يدور حولنا في هذه الفترة، واين كانت خطواتنا واين كانت خطوات الاخرين !

وكيف كنا وكيف كان الاخرون، كبداية لرسم مسار التخلف الثقافي والفكري الذي لا زلنا نراوح فيه، رغم دخولنا القرن الواحد والعشرين.

* مقتبس من كتاب عصر التكايا والرعايا لشاكر النابلسي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here