يدي معلقة !

يدي معلقة !
خالد جواد شبيل
أحسب أن التعبير عن أي فكرة ما هو في الحقيقة إلا مقاربة بينها وبين الحرف ليس إلا.. هكذا هو الأمر في كل الأمور التعبيرية على اختلاف مدارسها ومناهجها، في الآداب والفلسفة والفنون الجميلة من تشكيلية ودرامية..ولا يُعفي الأمر في شتى جوانب الابداع. فكلما كان المبدع حاذاقا شديد المراس زاد التقارب! وتبقى الغاية بعيدة لكل من رام المطابقة!
وكم مرة سمعت من نحّات ومن رسّام ومن شاعر أو ناثر -ولدى الأخيرهذا أضعف الإيمان-، هو أن الواحد منهم ما أن يغمره الرضاء وهو منهمك في عمله حتى إذا لاحت له سانحة جديدة فحاد عن الفكرة وأتى بأختها، والنتيجة أن الهوّة اتسعت والمقاربة نأت عن نفسها فيكون التمثال بهيئة جديدة.. والأمر نفسه عند الرسّام فهو في صراع لا مع الخطوط وحسب إنما الأصعب هو الوصول الى اللون الذي لاح في مخيلته.. الشاعر يشكو الصراع بين الفكرة كجنين وبين المولود وهو القصيدة! وأحسب أن خير من عبّر عن هذا الصراع هو العارف المتصوف محمد بن عبد الجبار النُّقّري ( ت 354ه) الذي قال: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.. يطيب لي أن أذكر شيئاً عن تواضع هذا الشيخ الجليل هو أنه لم يدفع بمخطوط لورّاق، بل أنّ كل مؤلفاته كانت شفاهية، يلقيها على طلّابه فيتولون حفظ ما يُملى عليهم شيخُهم ويتخذون على عاتقهم تدوينها!
***
كل هذه الأفكار عنّت لي وأنا ملقى على سرير في عيادة خاصة لإزالة كتلة من الألياف الدهنية التي تدعى طبياً “ليبوما”، فقد أجاب الطبيب على سؤالي كم تستغرق العملية؟ حيث قال: عشرون دقيقة والأجر كان معقولا..فباشر بمخدر موضعي وانهمك ومرت نحو خمس وأربعين دقيقة، وبدأت أحس بوقع المبضع ثم ألم مبرح عند مرور المبضع على نسيج يدي فارتبتُ ووضعت يدي السليمة على الفراش أردت أتحسس يدي اليمنى وأذا بسائل غزير لزج وهي حالة الدم حين يكون عبيطا كوّن مستنقع على الفراش، ثم وجدت حركة غير عادية نقلت بسيارة إسعاف مع مغذِ في الوريد وصفير الإسعاف “السيرين” عال مخيف الى مستشفى خاص فقد حصل قطع وريدي..وتم التخدير ومعالجة الوريد وخيط الجرح من جديد وخرجت معلق اليد، بالضبط كما جاء في الوصف القرآني” ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعدَ ملوماً محسورا” الإسراء 29.
وما دونته من أفكار هي وليدة العملية والمخدِّر الموضعي الذي قد يعمل تأثيرا خفيفاً في الرأس، وزدت على ذلك فحضر بيت شعر من قصيدة استقرت في خاطري مذ كنت طالبا، لشاعر لم يأخذ نصبه من الشهرة،شهرته شمروخ، واسمه محمد بن أحمد بن أبي مرة، أبو عمارة المكي، شاعر عباسي مُجيد، لم يصلنا من شعره إلا أقله وضاع أكثره، عاش في أوائل القرن الثالث الهجري( سبق أن كتبت عنه بتفصيل وإفاضة) :
إن وصفوني فناحلُ الجسد – أو فَتّشوني فأبيضُ الكبدِ
أضعفَ وجدي وزاد في سقَمي – أنْ لستُ أشكو الهوى إلى أحَدِ
آهٍ من الحب من كمَدي – إن لم أمُت في غدٍ فبعد غدِ
جعلتُ كفّي على فؤادي مِن – حرِّ الهوى وأنطويتُ فوق يدي
كأنَّ قلبي إذا ذكرتُكمُ – فريسةٌ بين ساعدي أسدِ
يدي بحبلِ الهوى مُعَلّقّةٌ – فإن قطعتِ الهوى قطعتِ يدي
وهكذا بقيت يدي غير قادرة على أداء مهمتها في الكتابة أو أي شغل يومي حتى وإن كان ماتستلزمه صغائر الحياة اليومية..
قبل ساعات عثرت على حاسوب لي صغير نسيته تماما وأنا أرجع لمقتنياتي في شقتي السويدية فراحت أناملي ترقن بيسر ودون ألم..
“أشكر كلّ من افتقدني سائلا ًعن سبب انقطاعي أوغيابي منذ أكثر من شهر…”

ستوكهولم في الفاتح من حزيران 2021

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here