في ظلال مغرب التعايش الديني

في ظلال مغرب التعايش الديني

بقلم محمد القادري: منسق مشروع بمؤسسة الأطلس الكبير

في ضيافة أرفود، المدينة الهادئة في جنوب شرق المملكة، على بعد حوالي 70 كلم من مدينة الرشيدية، تقع هذه المعلمة الأثرية الفاتنة ـ لم يكن في برنامج زيارتنا لهذه المدينة سوى مراقبة الأشجار المثمرة التي تم توزيعها على الفلاحين بالمنطقة في إطار برنامج غرس مليون شجرة الذي أطلقته مؤسسة الأطلس الكبير مع شركائها، وإذا بنا نكتشف عبق التاريخ بين احيائها وقصورها ومقابرها. كل شيء فيها يوحي أننا لسنا أمام مدينة عادية، بل إننا في ضيافة قدسية التاريخ والحضارة المغربية الأمازيغية واليهودية والعربية والأعماق الإفريقية، اذ تعتبر مدينة ارفود من بين المدن المغربية التي تحمل تاريخا عريقا، وتتميز بتنوعها الطبيعي من خلال كثافة أشجار النخيل بها والتي تكتسي مساحة كبيرة في المنطقة وتعد أكبر واحة في قارة إفريقيا، وتعرف كذلك أرفود تنوعا تاريخيا وثقافيا ثم دينيا وهذا ما لمسناه في أخر زيارة لهذه المدينة وهذا التنوع الذي طالما رافق الإنسان منذ وجوده لأن الانسان والأخر لم يوجدا ولهما ثقافة واحدة ودين واحد بل السمة البارزة للإنسانية تكمن في الاختلاف، فبتعدد الشعوب والأوطان تعددت الثقافات و الأطياف والألوان والأديان.

كانت المقبرة اليهودية الموجودة هناك أكثر ما أثار انتباهنا بحكم الحالة غير المرضية التي وجدناها فيها والتي حركت في نفوسنا غيرة على تراثنا المجيد، علمنا تواجد المقبرة بالمكان من خلال ربط جسور التواصل الدائم والمستمر مع الساكنة المحلية بالمنطقة، فبعد الحديث عن البرامج التي تشتغل فيها مؤسسة الأطلس الكبير مع شركائها وابراز اختصاصاتها، وأثناء تداول الحديث أيضا علمنا بوجود مقبرة يهودية قديمة بالمنطقة والتي يرجع تاريخها الى ما قبل الاستعمار، حيث انتقلنا إلى مكان تواجد هذه المقبرة رفقة أعضاء تعاونية غيث الخير وفور الوصول وبالمحاذاة مع واد زيز وبمساحة حوالي الهكتارين من أرض دفن تحت ثراها نساء ورجال وأطفال من اليهودـ، من شيوخ قال عنهم أحد الحكماء “إن وفاة شيخ في شمال إفريقيا فكأنما أحرقت مكتبة”، في إشارة إلى غنى ثقافتنا الشفهية. بين القبور لاحظنا كتابات بالعبرية على الصخور، والمحزن جدا هو ما تعانيه هذه المقبرة من هشاشة وإهمال نتج عنها خروج رفات الجثث خارجها في غياب محزن لحرمة الموتى مما يمس بقدسية الأموات ثم المكان، مما جعلنا نتأسف ونتأثر بالوضع الذي تعانيه هذه الأخيرة، ونحن نعلم بقدسية الرفات في الثقافات والديانات السماوية عموما و في التعاليم اليهودية على وجه التحديد.

لم يكن لشاب مغربي مثلي أن يتصور ما شاهدناه عاديا، ولم أستطع تقبل الوضع كشاب مسلم يحترم كل الناس باختلاف دياناتهم وثقافاتهم ومشاربهم الفكرية والإيديولوجية. فكان واجبا أخلاقيا ووطنيا أن أبحث عن سيبل من أجل إعادة الاعتبار لحرمة هؤلاء الأموات جسدا لإحياء بيننا ثقافة وهوية وتاريخا وحضارة. وبالأخص عندما نستحضر قدسية الدفن في معتقدهم. لم يكن هذا الشعور خاصا بي لوحدي، بل حتى الساكنة والفاعلين في المجتمع المدني هناك حزينون وغاضبون على هذا الوضع.

ونظرا لهذه الوضعية المؤلمة والمؤسفة، كانت الخطوة الأولى التي قمت بها هي التشاور مع الفاعلين الجمعويين في المنطقة قصد الحصول على مزيد من المعطيات حول هذه المعلمة، فكان ثمرة ذلك التنسيق مع تعاونية غيث الخير في شخص رئيسها السيد زكرياء الخماري، تم خلال الحديث معه تعمق النقاش حول هذه الوضعية التي لا تعطي الصورة الأمثل لما تتمتع به المنطقة من خيرات ثقافية ومن طباع الساكنة المتعايشة والمسالمة. وأثمر النقاش هذا على فكرة الاستعجال في المرحلة الأولى بترميم القبور المخربة وإعادة الرفات إلى حضنها الطبيعي الروحاني المقدس. وذلك بدعم من مؤسسة الأطلس الكبير، على أن يتم التخطيط لمشروع ورش هام يتوخى ترميم المقبرة برمتها.

لم يكن ما حدث بأرفود عبثا بل يحمل هذا الموقف بين ثناياه عبارات الإنسانية والتعايش السلمي والديني الذي طالما اتخذه المجتمع المغربي منذ قرون مضت والذي توارثه المجتمع أبا عن جد ومن ابن عن أب عبر مر الأجيال، والذي واكبناه نحن أيضا من خلال هذه التجربة الإنسانية الفريدة.

كانت سعادتنا غامرة عندما قام ثلة من شباب المنطقة بالتنسيق مع تعاونية غيث الخير بالعمل، وأحسست بالأهمية البالغة للتضامن والتآزر فيما بيننا من أجل صيانة كرامة الإنسان أولا والمساهمة في الحفاظ على تراثنا المادي حتى لو كان بمثقال ذرة. إننا بذلك ننخرط في مغرب التعايش، في مغرب التعدد الديني واللغوي والاثني، في مغرب يفتخر بكل تراثه ويصون لجالياته عبر العالم تاريخ بلدهم وإرث أجدادهم.

لم يكن ذلك الشعور الوحيد الذي أثر فينا، بل الدرس الذي قدمته تلك الساكنة المنحدرة من جنوب شرقي يظهر أن الهشاشة هي السمة البارزة في محيى سكانته وبنياته. لقد كانت تجربة مؤثرة بحق، استنتجت من خلالها أن هناك مزيدا من العمل ينتظرنا من أجل الحفاظ على هويتنا المشتركة وأن الانتماءات الدينية والقبلية والطائفية تنتهي عندما نؤمن أن كل ما في هذا الوطن من تراث وتاريخ وحضارة هو ملك لنا جميعا، وصيانته مسؤوليتنا جميعا. ولا أحد سيستثني نفسه من المهمة فالتعايش والتضامن هي ثمرة ما ورثه هذا البلد من ثقافاته المتعددة الجذور والمشارب.

محمد القادري هو عضو في برنامج هيئات حفظ الشباب في المغرب المدعم من قبل مصلحة خدمات الغابات الامريكية، الذي تنفذه مؤسسة الأطلس الكبير في المغرب.
تم إنجاز هذا المقال بمساندة الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، ومؤسسة الاطلس الكبير هي المسؤول الوحيد عن المحتوى، الذي لا يعكس بالضرورة وجهات نظر الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، أو حكومة الولايات المتحدة الامريكية.

يهدف نشاط الأقليات الدينية والعرقية التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الذي تنفذه مؤسسة الاطلس الكبير وشركاؤها إلى تعزيز التضامن بين الأديان وبين الأعراق من خلال جهود المجتمع التي تحافظ على التراث في المغرب.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here