أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ التَّاسِعةُ (٢٣)

نـــــــزار حيدر

{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.

الرِّجالُ إِثنان؛ رجلٌ يُتاجرُ بالدِّينِ لتحقيقِ غاياتهِ السياسيَّةِ، وآخر يُتاجرُ بالسِّياسةِ لتحقيقِ غاياتهِ الدينيَّةِ.

الأَوَّل يخُوضُ بالدِّماءِ لتحقيقِ ذاتهِ، والثَّاني يخُوضُ بذاتهِ لحمايةِ الدِّماءِ.

وليسَ أَصعبُ على المرءِ من التَّمييز بينَ الأَهم والمُهم، وبينَ المصالحِ العامَّة والأُخرى الخاصَّة، وبينَ أَن يختارَ المبدء ليحميهِ فيضحِّي بكُلِّ شيءٍ من أجلهِ وبينَ أَن يختارأَيَّ شيءٍ ويضحِّي بالمبدأ.

نظريّاً فإِنَّ كُلَّ ذلكَ واضحٌ وسهلٌ إِلَّا أَنَّ ما يكشف الحقيقة هو الإِختبار.

وعلى مُستوى السُّلطة فأَنا برأيي أَنَّ الرَّجُلَ يُختبَرُ في مَوقِفينِ وفي لحظَتينِ؛ لحظة وقُوفهِ على أَعتابِها، ولحظة إِزاحتهِ منها لأَيِّ سببٍ كانَ.

هُنا يقفُ الرَّجُل عند مُفترقِ طُرقٍ، فنتثبت ما إِذا كانَ رجُلَ دينٍ وقِيَم ومبادئ يضحِّي بكُلِّ شيءٍ لحظة تعرُّضها للخطرِ، أَم أَنَّهُ رجُل دُنيا وسُلطة لتحقيقِ نفوذهِ ومصالحهِمن خلالِ الدِّينِ والقِيم والمبادئ؟!.

وفيما إِذا كانَ يُتاجرُ بالسُّلطةِ من أَجلِ الدِّين أَم بالعكسِ؟!.

وفيما إِذا كانَ يُضحِّي بالسُّلطةِ من أَجلِ حمايةِ وحدةِ المُجتمع، أَم بالعكسِ يضحِّي بالأُمَّة من أَجلِ السُّلطةِ؟!.

حكيمٌ قادِرٌ عَلى التَّمييزِ بينَ الأَهم والمُهِم، أَم أَحمقٌ لا يُميِّز بَيْنَ النَّاقةِ والجملِ، وبينَ المصالحِ والمفاسدِ؟!.

إِنَّ الجوابَ على هذهِ الأَسئلةِ وأَخواتها ليسَ بالأَمرِ الهيِّن، فليسَ هُناك زعيمٌ يعجزُ عن إِيجادِ المُبرِّراتِ والذَّرائعِ لشرحِ موقفهِ من هذهِ المُفردات [الدِّين والسُّلطة والأُمَّةوالوِحدة] كلَّما تضاربت المصالِح وتقاطعت العِلاقة فيما بينِها، لدرجةٍ أَنَّنا نرى يوميّاً نماذجَ من الزَّعامات تدَّعي أَنَّها تُقاتل من أَجلِ السُّلطة على حسابِ سلامةِ البِلادِوالعبادِ بتفويضٍ من الله تعالى إِستلمهُ عن طريقِ رُؤيا أَو مبعوثٍ خاصٍّ أَو ما إِلى ذلكَ من الخُزعبلات التي نسمعها دائماً منهم لتبريرِ إِستقتالهِم على السُّلطةِ وتدميرهِمكُلَّ شيءٍ وخوضهِم في الدِّماء والأَعراضِ لإِنجاز [رسالتهِم السماويَّة] التي بُعثوا من أَجلِها!.

إِلَّا أَميرَ المُؤمنينَ (ع) الذي رسمَ بالفعلِ لا بالقَولِ معالم مُعادلة جديدة بمعاييرَ قرآنيَّة حقيقيَّة للتَّمييز بين رجُل الدِّين والدَّولة والقِيم والحقُوق الذي يوظِّف كُلَّ شيءٍ منأَجلِ حمايتِها، حتَّى سُمعتهُ وروحهُ إِذا اقتضى الأَمر، وبينَ رجُل السُّلطة الذي يوظِّف كُلَّ ذلكَ من أَجلِها.

والتَّوظيفُ يكونُ في كُلِّ الحالاتِ، عندما تعتلي السُّلطة وعندما تتركَها.

ويكونُ كذلكَ عندما يحينُ الوقتَ لتترجَّلَ عنها بأَيِّ شَكلٍ من الأَشكالِ.

فمِن كتابٍ لهُ (ع) إِلى أَهلِ مِصر مع مالكٍ الأَشتر لمَّا ولَّاهُ إِمارتها كتبَ لهُم يشرح فيهِ حقيقةِ الظَّرفِ الذي دعاهُ لتركِ السُّلطة ولِماذا؟!.

{أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَى (ع) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُبِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَالنَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص) فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُالَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ}.

فالإِمامُ (ع) وقفَ عندَ مُفترقِ طُرُقٍ؛ بينَ أَن يضحِّي بالإِسلام والقِيَم التي جاهدَ من أَجلِ ترسيخِها مدة [٢٣] سنة بينَ يدَي رسول الله (ص) ليتشبَّثَ بحقِّهِ [الشَّرعيوالدُّستوري] في اعتلاءِ الخلافةِ وبينَ أَن يضحِّي بهذا [الحق] من أَجلِ حقٍّ أَعظم!.

بينَ أَن يضحِّي برسالةٍ إِستراتيجيَّةٍ خالدةٍ [الاسلام] لصالحِ رسالةٍ تكتيكيَّةٍ زائلةٍ [السُّلطة] أَو العكس!.

ولأَنَّهُ (ع) رجُل مبادئ ظلَّ وفيّاً لها إِلى آخرِ لحظةٍ من حياتهِ، لذلكَ اختارَ الثَّابت على المُتحوِّل واإِاستراتيحي على التَّكتيكي في لحظةٍ فارقةٍ.

ومن خلالِ فهمي للنَّص فأَنا أُجزم أَنَّهُ لولا لحظة الإِختيار تلكَ لما بقيَ منَ الإِسلامِ شيءٌ، وتلكَ هيَ التَّضحية الرِّساليَّة الحقيقيَّة.

أَمَّا عندما حانت اللَّحظة ليترجَّلَ (ع) عن الحُكم في [٢١] من شهرِ رمضان المُبارك عام ٤٠ للهِجرةِ، جرَّاء عمليَّة إِغتيالٍ جبانةٍ على يدِ عدوَّ الله إِبنَ مُلجم، فقد كتبَ (ع) من وصيَّةٍ لهُ لولدَيهِ السِّبطينِ الحسَن والحُسين (ع) {يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِيانْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ }.

قارن هذا المَوقف الرِّسالي القُرآني بموقفِ [الصَّحابة] الذين خاضُوا ثلاثةَ حرُوبٍ أُريقت فيها دماءٌ غزيرةٌ بذريعةِ المُطالبة بدمِ عُثمان حتَّى ذهبَ قَول [قميص عُثمان] مضرباً للمثَلِ لكُلِّ مَن يوظِّف أَمراً ما لتحقيقِ غاياتٍ ذاتيَّةٍ حتى إِذا جاءَ ذلكَ على حسابِ الدِّين والدَّم والعِرض ووحدةِ المُجتمعِ!.

هنا تحديداً لكَ أَن تُقارن بين الحقِّ والباطلِ لتعرفَ من هُم أَصحاب الحق ومَن هُم أَصحاب الباطل، فالتَّمييزُ ليسَ بالشِّعارات والأَزياء والخِطابات! وإِنَّما بالمَوقف علىالأَرضِ وليس في مخيِّلاتِ [الزَّعاماتِ]!.

وإِلى اليَوم فبينما يصرُّ أَبناء القَوم على توظيفِ المُتشابهِ من القُرآن الكريم وسُنَّة رسولِ الله (ص) للنُّزو على السُّلطة وتفريقِ الأُمَّة وتمزيقِ شَتاتها، أَوصى أَميرُ المُؤمنينَ(ع) مالك الأَشتر لمَّا ولَّاهُ مِصر في عهدهِ إِليهِ يقولُ {وَارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِالْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ}.

سأَكتفي هُنا بالإِستشهادِ بالنصِّ فقط دونَ أَن أَذهبَ إِلى أَبعدِ من ذلكَ فرُبَّما أَتجاوز برأيي منطقة الخَطر، مُتمنِّياً على المعنيِّينَ من عُلماء وفُقهاء ومفكِّرين ومُتخصِّصينَأَن يُبادرُوا لبسطِ رأيهِم في النَّصِّ لأَهميَّتهِ وخطورتهِ في آنٍ، فقد يكونُ التَّجديد في فَهمهِ باباً لتجاوُزِ مرحلةٍ والدُّخول في أُخرى جديدةٍ من تاريخِنا وواقعِنا!.

٢٣ نيسان ٢٠٢٢

لِلتَّواصُل؛

‏Telegram CH; https://t.me/NHIRAQ

‏Face Book: Nazar Haidar

‏Skype: live:nahaidar

‏Twitter: @NazarHaidar5

‏WhatsApp, Telegram & Viber: + 1(804) 837-3920

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here