مزايا الخلوة مع النفس !

مزايا الخلوة مع النفس ! * د. رضا العطار

يبدو الانسان كأنه حيوان اجتماعي لا يطيق العيش منفردا، وهو يعد الحبس الانفرادي اقسى انواع الحجر والتقييد، لهذا السبب فإن المسجون لا يطيق انفراده في زنزانته بين الجدران الاربعة، لذلك يعاقب المسجونون المشاكسون بحرمانهم رفقة زملائهم فيضعون في زنزانات متفرقة.

ولكننا بحكم حضارتنا ولغتنا وديانتنا واخلاقنا نكون اناس اجتماعيين نحب الحياة الاجتماعية، و نعيش في مجتمع نرى انفسنا منساقين في تياراته آخذين باساليبه معتمدين على قيمه واوزانه. فتبرز في احساسنا حقائق العيش والكسب والوجاهة والابهة ونعمى عن حقائق اخرى اكبر قيمة واعظم وزنا، اي ان الحقائق الاجتماعية التافهة كثيرا ما تغطي على الحقائق البشرية الجليلة.

ومن هنا تأتي قيمة الخلوة، فان التفكير بطبيعته اجتماعي، اي اننا نفكر بالقيم والاوزان الاجتماعية بل بكلمات اجتماعية ولكننا لا نحسن التفكير الا ّ في الخلوة بعيدين عن صخب المجتمع وضوضائه. والخلوة والهواية كلتاهما ضرورية لنا كي نجد الاتزان النفسي والتأمل الفلسفي وكأننا بهما نبتعد عن المجتمع ونستقل من جميع اعتباراته ونحاول ان ننحرف عن طرقه واوضاعه كي نرى انفسنا على حدة.

واذا كانت الهواية تربينا لانها تتيح لذكائنا و عضلاتنا تدريبا وتبسط لنا آفاقا، فان الخلوة تتيح لنا الوقت والانفراد كي نبحث من وقت لأخر مراسينا في المجتمع بل في الكون. لانها تنزعنا من هذا الموكب الذي نسير فيه او بالاحرى ننساق فيه ذاهلين الى موقف اليقظة والتردد والتأمل والتساؤل. هل نحن على صواب او خطأ ؟

هل عاداتنا ومألوفاتنا قد غمرت حياتنا حتى صرنا نعد العرف قانونا ازليا والوضع القائم سنة مقدسة يجب الاّ تتغير ؟

والتأمل في الخلوة يرفعنا فوق هذه الاعتبارات لاننا نحاول ان نفهم الفهم الموضوعي، فهم الضمير والتعقل بدلا من الفهم الانسياقي الاجتماعي، كأننا بهذه الخلوة ناخذ من المجتمع – اجازة – كي نفكر وحدنا بلا تدخل منه. فنعتكف ونقارن بين القيم القديمة والقيم الجديدة وبين ما يجري وما يجب ان يجري. وبين القيمة الاجتماعية والقيمة البشرية.

والخلوة هي التي تحملني مثلا على ان احس كوني بشري انتمي الى سكان المعمورة. وهؤلاء هم اسرتي الكبيرة التي ترتفع فوق الوطنية والدين والسلالة واللون. هم البشرية التي توج بها تطور الاحياء بعد الف مليون سنة من التطور على هذا الكوكب. وهم الذين افكر فيهم حين اتخيل انسان المستقبل.

وما ابدع الزعيم الهندي غاندي حين كان يصر على ان يختص بيوم كل اسبوع يصوم فيه عن الكلام. فلا يخاطبه احد ولو لم يختل ولم يعتكف لانه في هذا الصمت يجد خلوة عقلية يستطيع ان يفكر فيها دون ان يرتطم عقله بسؤال او اعتراض او اعتبار

وكل منا يحتاج الى مثل هذا اليوم الاسبوعي ويحسن بنا ان نختلي بلا كتاب او جريدة ولكن مع ورقة وقلم كي ندون ما يستحق من افكارنا الطارئة. وفي حياتنا مشكلات كثيرة تطالبنا بان نخلو ونفكر. ما هو الدين ؟ ما هو الشرف والضمير ؟ ما هو الكون وما بقى من العمر ؟ وماذا انا فاعل به ؟ وما هو برنامج الحياة في السنوات الخمسة القادمة ؟ هل درست ديني وعلومه ؟ هل يصح ان تستمر حياتي الحاضرة ام يجب ان تتغير ؟

وفي سياق فوائد الخلوة يقول الاديب الالماني الشهير جوتيه ( بدون العزلة التامة لا استطيع ان انتج شيئا ابدا) … في الواقع يحتاج كل واحد منا الى وقت يختلي بنفسه كي يراجع ماضيه ويتبصر للمستقبل وقد يهتدي الى اساليب واهداف ما كان ليصل اليها لوانه كان قد استسلم وانساق في المجتمع. فالحياة الاجتماعية في الواقع تلا بسنا في البيت والمقهى والنادي والمكتبة بل في الجريدة والكتاب تحول دون التفكير المثمر وتشغلنا بتوافه وصغائر تتبدد بها حياتنا. وفي الخلوة يتجمع الفكر في بؤرة، وتفتح لنا نوافذ على فضاء آخر قد نجد فيه ما نتغير به الى حال اصفى واحسن.

وليست الخلوة التي ندعو اليها بالشئ الجديد لان الواقع ان كلا منا يعتكف من وقت لآخر كأن يخرج الى المقهى ناء كي يخلو ويفكر في موضوع معين، فنحن نحس الحاجة الى الانفراد والخلوة، نمارسهما دون ان نحتاج الى ارشاد ولكن اذا جعلنا خلوتنا معينة بمواعيد كان ذلك انجع لتفكيرنا وانظم لحياتنا

والخلوة عند الرجل العادي تعادل البرج العاجي عند الاديب ونحن نمقت الناسك الذي يجعل حياته كلها خلوة، كما نمقت الاديب الذي لا يعرف من الحياة سوى ان يحتبس في صومعته. ولكننا نحب من الرجل العادي ان يختلي من وقت لاخر كي يفكر ونحب من الاديب ان يحيا في المجتمع ويشتبك في شؤونه ثم يختلي في برجه العاجي.

* مقتبس بتصرف من كتاب فن الحب والحياة، للموسوعي سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here