الموسيقى والطفل

الموسيقى والطفل، * د. رضا العطار

هناك ثمة تأكيد خاص على اهمية الموسيقى للطفل . فهو يتحسس بها منذ وجوده جنينا في رحم امه, وكذلك الحال بالنسبة الى النباتات نفسها التي تستجيب للموسيقى، فتحسّن نموها وتزهو الوانها. وما هذا الاّ اشارة لنا للتأكيد على اهمية الموسيقى بالنسبة للأنسان مهما تكن سنه، ومهما تكن مرحلة عمره – من المهد الى اللحد.

واذا كان الباحثون يخوضون في تفاصيل قضية الانغام واثرها في صقل حواس الطفل ونمو ادراكه فأني اتحدث عن تلك العلاقة القديمة بين الانغام والالحان وبين حياة الانسان فيما بعد الطفولة وهو يجابه تقلبات الايام بأفراحها واحزانها, متأملا او متعبدا مستسلما, اذ تثير خيالاته ومشاعره في نفسه احساسا من الحب والقربى تجاه خالقه.

او ملتجئا اليه ليجلو عنه شدته وآلامه .

وهل من عاطفة تعتلج في نفس الانسان لا تجد غذاءها في الموسيقى ؟ لعل ذلك ما جعل البابليين القدامى يضعون – انانة – ربة الموسيقى في اعلى مراتب الألوهية : وما اثرها في حياة الناس افرادا او مجتمعين . الاّ اثر الموسيقى الغامض بحريك خلجات البشر.

لقد عبّر الانسان عن نفسه منذ ان وعى وادرك انه محاطا بكيانات اخرى جعلت الوشائح بينه وبينها تتداخل وتتعقد. ومنذ ان اخذ يدرك ما بينه وبين الطبيعة من علائق روحية ومنذ ان احس ان بينه وبين الكون تجاوبا وجدانيا، سواء اعترف بذلك او انكر، فهي في كل الجالات تبقى المصدر والمنبع للفنون كلها باشكالها واساليبها والوانها في الصوت والصورة والكلمة والحركة.

وبقدر ما وجد الانسان في هذا التعبير ترويجا عما يتراكم في دواخله من انفعالات ورؤى, فانه وجد ايضا ان هذا الذي يروّح عنه, يغذي عقله في الوقت نفسه ويعززه على مجابهة المشاق ويشفيه مما يعتريه من الجيعة. انه في هذه الحالة يعيد اليه توازنه مع الكون , مع العالم.

هكذا نشأت فنون الشعر والرسم والنحت والرقص والغناء, تنامي فن الموسيقى حتى كاد يحتل المكانة الاسمى من ابداع الانسان. فلعل الموسيقى هي حقا ارفع الفنون كلها. انها الفن الخالص الوحيد الذي يستطيع في استمراره وايقاعه وتموجاته واسراره ان يثير في الانسان اسمى المتع, مجردة, لا يعرفها العقل البشري من قبل, وهي في الوقت ذاته نشوة مستمرة, ترفع من استجابة النفس وتحفزها لكل ما هو خير وجميل. فاذا كان هناك ما قد صنع خصيصا للروح، فهو هذه الموسيقى.

واصحاب الكلمة بالذات هم اول من اكتشف ذلك. فلا اظن ان احدا في تاريخ اداب الامم كلها, أكان كاتبا او شاعرا او فيلسوفا لم تكن الموسيقى محركا كبيرا لألهامه ومؤثرا في طرائق تفكيره وكتابته. وكان الشعراء دوما, وفي طليعتهم الشعراء العرب اشد الناس تعبيرا عن ولعهم بالموسيقى. فراحوا ينافسون ايقاعاتها الصوتية بأيقاع كلماتهم. وارادوا مضاهاة اثرها في النفس في اطلاق معانيهم بأوزان مشتقة من اوزانها.

قبل اكثر من ثلاثة قرون قال السير توماس براون في احد كتبه – حيثما يوجد التناغم والتناسب توجد الموسيقى. فالعراقيون القدامى قد احسوا بان اجزاء الكون واجرامه السماوية تتحرك بأنتظام وتناغم وتناسب. فتنبعث من حركتها تلك الموسيقى المطلقة التي نسعى نحن في ما قسّم لنا من حياة. ان نرجع بعضا من اصدائها. فنحن انما نحيا الحياة الخليقة بنا. ما دامت هذه الموسيقى في تناغمها. واذا اضطربت, اضطربت حياتنا كلها. انها تمثل ذلك الخير المطلق الذي تتوق النفس الى ان تكون ابدا جزء منه.

ولئن كانت الموسيقى طوال تاريخ البشرية قد اقترنت بالحب بقدر ما اقترنت بالتقوى و فما ذلك الا لانها ارتبطت دوما بأجمل مشاعر الانسان وارق عواطفه واشدها غزارة وايحاء ونقاوة. وما ذلك كله ايضا الا النقيض من الحقد و الكراهية, فالموسيقى انما تعبر في بعض ما تعبر عن سعي الانسان نحو انسجام الذات مع الاخر – نحو التفاهم والغفران .

لا ريب ان ثمة من الناس من لا يستجيبون للموسيقى, لسبب ام لاخر . ولشكسبير راي مشهور في ذلك يرد في مسرحية – تاجر البندقية – حيث يقول :

كل امرئ خلت من الموسيقى نفسه

ولا يحركه عذب النغم

خليق بالخيانات والغدر

حركات روحه بليدة

وعواطفه مظلمة

اياكم والثقة في انسان كهذا

وكان هذا الشاعر يرى ان الكثير من النشاط الانساني يجري بلغة الموسيقى وكناياتها. فكانت الحياة بالنسبة له – كما هي بالنسبة للكثيرين منا ولا ريب – تتمثل في طراوتها من ناحية واضطرابها من ناحية اخرى. في ذلك التضاد الذي رآه بين موسيقى السلام والطمأنينة والنشوة وبين موسيقى العنف والبغضاء والقتل.

فنحن اليوم واعون ان هذه الزعزعة التي نجتازنا. تجعل علاقاتنا الاجتماعية تضطرب , وتوازننا يختل بفعل تصاعد روح العنف فينا, فنحن اليوم بحاجة الى دواء يهدئنا, وخير العلاج ان نلجأ الى الموسيقى, هبة الله للأنسانية المعذبة. نستعيد بها توازن انفسنا وتناغم نوايانا من جديد بغية الرجوع الى طريق الصواب, طريق التفاهم والتلائم.

فاذا كانت موسيقى قرع الطبول وصدح الابواق قد استخدمت للحث على القتال بين البشر, لما يثيران في النفس من حماس للعدوان، فان بوسع قرع الطبول وصدح الابواق ايضا ان تثير في النفس الحماس لبعث المحبة والتآخي بين البشر.

لعل بيتهوفن هو اعظم من استطاع ان يعبّر عن ذلك كله في سمفونيته التاسعة الخالدة,

اذ ناقش بالموسيقى التنابز بين البشر لكي يطلق بعد ذلك صرخة الحب الهائلة للأنسانية جمعاء حين حوّل قصيدة الشاعر الالماني الكبير شيلر الى انغام شجية من اروع ما عرفت حضارات الامم من فن، ليدعو فيها الى فرحة الانسان بالانسان. امنيته ان يبقى الانسان أخا للأنسان وهو يردد – ايتها الملايين – اني اعانقك \ مع قبلة للعالم اجمع.

*مقتبس بتصرف من كتاب تأملات , تأليف جبرا ابراهيم جبرا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here