أمين معلوف: من التاريخ .. إلى مناجاة المستقبل

بدور زكي محمد

يدهشنا الأديب أمين معلوف بلغته الفريدة في جودتها وسلاسة عباراتها، في استدعائه للتاريخ من غير انحياز لرؤية معينة، وعبوره لمحطات الأديان والمذاهب من غير تعصب.وكنت قد قرأت له معظم كتبه فوجدت فيها بالغ الغنى والإمتاع، ففي تحفته “حدائق النور” يبزغ نجم ماني في سماء بابل،رسولاً هادياً، يعلم الناس كيف يتسامحوا، يتعالى على آلامه ويمضي لتبليغ رسالته في المحبة، لكن الحب حين يفرد جناحيه لا يسلم من انحناءات القدر فيطبق الفراق على المحبين ويموت ماني بيد أعدائه الغارقين في ظلام عقائدهم. ويكاد معلوف أن يكون مؤرخاً بما لديه من ذخيرة الفكر وعهدة الأدب الرصين، فيهدينا من روائعه، من أرض لبنان كتاب “البدايات”، و “صخرة طانيوس”. ثم يبحر إلى الشاطئ الأندلسي، وبحور المتوسط ليتابع أسفار “ليون الأفريقي” وبعدها تسير راحلته بعيداً لتحط في “سمرقند”. ويشّق على الأديب المؤرخ أن تبقى وجهة النظر الغربية هي السائدة، فيستعرض لنا كيف سارت “الحروب الصليبية” كما رآها العرب، معتمداً بذلك على ما كتبه مؤرخوهم. يكتسب أدب معلوف أهمية فائقة لكونه يكتب باللغة الفرنسية، ما يتيح له الوصول إلى القارئ الغربي، إلى جانب ما يترجم من كتبه إلى العربية والإنجليزية ولغات أخرى.معظم ما كتبه معلوف اتّسم بطابع مميز وثيق الصلة بالتاريخ، لكنه في كتابه “اختلال العالم” يرصد الحاضر ويتابع الانهيار المتواصل لمنظومة القيم،وتهالك الحضارة، حزمة من المخاوف يعرضها وعينه على المستقبل، لذلك جاءت روايته “إخوتنا الغرباء” أو “إخوتنا غير المتوقعين” في الترجمة الإنجليزية، لتقدم بعض العزاء للطامحين بالخلاص، وبعالم تسوده الحكمة. أحداثها تنبع من خيال خصب يرتوي من حيرة البشر المتطلعين لغد ينتشلهم مما يهددهم من حروب وكوارث يمكن تقضي على كل منجزات حضارتهم، حيرة لا يبدو في أفقها المنظور شاطئ أمان، ما لم تبحر السفن صوب أعالي البحار، فهناك ربما يلوح لها ضوء شارد من عوالم النور.
تبدأ هذه الرواية من أرض الواقع، حين تنقطع الاتصالات في كل دول العالم، وتنحني قوة الكهرباء لضوء الشموع، ومن هول الحدث تنطلق هواجس ألكسندر الذي يعيش في جزيرة صغيرة في غرب فرنسا، اسمها “أنطاكية”، ليس لها ذكر إلا على خرائط بحرية بالغة التفاصيل، كما يخبرنا عنها الكاتب،و أنها تقع في أرخبيل الشيرون على المحيط الأطلسي، ليس بعيداً عن جزيرتي ري وأوليرون. وقد زهد بها الفرنسيون فباعوا نصفها لوالد ألكسندر الذي كان ضابطاً في الجيش الكندي وشارك في إنزال النورماندي. أما النصف الآخر من الجزيرة فقد امتلكته امرأة تُدعى إيف سان جيل التي كتبت رواية وحيدة نالت نصيبها من الشهرة، تنبأت فيها بنهاية مأساوية لحضارة البشر بعد أن ضلّوا سبيلهم، لكنها لم تعبر عن حزنها لهذه النتيجة، طالما أنها ترجو أن يتولى آخرون يأتون في يوم من الأيام مهمة إصلاح العالم. وبما أنها تنتظر أولئك فقد استسلمت لعزلة طويلة، بعد أن وسمت روايتها بالآتي: “ المستقبل لم يعد يسكن على هذا العنوان”.
وفي غمرة انشغال أديبنا بالمستقبل، لم ينسَ التاريخ فافتتح كتاب “الإخوة” باقتباس مقولة للشاعر الألماني نوفاليس: “الرواية تنشأ من نواقص التاريخ”، ذلك لأنه لم يجد في كل ما رواه من إشراقات التاريخ ما يعينه على تخيل المستقبل.
وعلى الضد من عزلة الأديبة إيف، كان ألكسندر على علم بما يجري في أروقة الإدارة الأمريكية، عن طريق صديق له قريب من مصادر القرار هناك، يخبره بكل جديد، وهو بدوره يسجل التفاصيل في يومياته.
وأنا إذ أقدم فكرة عن رواية الإخوة، لا أريد أن أنتقص من حماسة القارئات والقرّاء للاطّلاع على تفاصيلها، لذلك سأكتفي بالإشارة إلى بعض المشاهد التي تنمي عن جمال الأسلوب لدى الأديب معلوف.
لم تدرك إيف في عزلتها أن هناك من يكنّون لها المودة، ويتلقون ما سطّرته في روايتها وكأنه نبوءة، حتى تعرفت إلى رجل بدا أنه يشاركها همومها، بل ويحفظ باعتزاز كل ما كتبته،ومع أنها لفرط مللها من الانتظار لا تريد أن تتذكر ما كتبته، وربما نسيت، لكن الغريب يذّكرها فيقول: “ قلتِ ما يلي: على دروب الحياة نتعثر طوال الوقت بجثث تاريخنا المربكة. ولكن البشرية إذا ما سئمت يوماً المشاحنة مع ماضيها، والتقت بمستقبلها، فهل ستنجح في معرفته؟ هل ستنجح في أن تعرف نفسها من خلاله، ووضع راحتيها على جسدة القوي والدافئ”. كان لكلام الرجل الذي التقته إيف لأول مرة فعل السحر عليها، وهي التي ظنت أن لا أحد يذكرها، وبدت وكأنها “في حضرة ظهور عجائبي” زاد من روعته أن محدثها طرح أسئلة تتناغم مع أفكارها حين قال: “ماذا كان سيحدث لو ظلت البشرية تتقدم كما كانت في العصر المبارك للمعجزة الإغريقية، عوضاً عن الغرق في حقبة قروسطية مديدة .. إلى أي مصاف كان العقل البشري سيرتقي لو ظل يتألق بالوتيرة نفسها، وفي جميع الميادين؟ إنك تطرحين ياسيدتي كل هذه الأسئلة في كتابك..”. الكسندر كان حاضراً ذلك المشهد من التمجيد من جانب الغريب، وعودة الروح لدى الكاتبة، كانت صديقته لكونها جارته الوحيدة في الجزيرة، وبعد انصراف الرجل انتظر منها أن تعلق على ما سمعته، لكنه “لمح في عينيها بريقاً يشبه ارتعاش شمعة، واحتراماً لخشوعها ولفرحها الداخلي أحجم عن الكلام..”
اقترحت عليه بدل الحديث أن يرافقها في المسير على شاطئ البحر. كانت إيف “تسير كمن تمشي في نومها، متسربلة بالصمت، غارقة في التأمل، إنما بخطى مبتهجة…” ظلت منتشية بانتصارها على العزلة، تحاول أن تستعيد حواسها، حتى أنها بعد أن عادت من نزهة الشاطئ، صارت تحدث نفسها أو تخاطب “أحدهم” بينما كان جارها قريباً منها، قالت:” استرجعت حبي للحياة.. كنت حبيسة، و ها قد تحررت. أريد أن أقفز! أريد أن أصرخ! أن تُترع كأسي بالشمبانيا! أريد أن يقبِّلني أحدهم!”. الكسندر كان حائراً، ولكن “لا يسعه التجاهل، فإن “أحدهم” هذا، في الظرف الراهن، ليس سواه، فأي رغبة من رغبات إيف عليه أن يلبيها أولاً؟ القبلة؟ الشمبانيا؟
وفي متابعتي لمسار تلك الأمسية بين الجارين، لا يفوتني أن أسجل إعجابي بأسلوب معلوف في التعبير عن مشاهد الحب، فالغزل عنده ذو وقع جميل، محتشم وبليغ، لا يشبه ما يتباهى به بعض الأدباء ممن يوصفون بالجرأة. وعن تلك الليلة يقول الكسندر: “… همست في أذنها: “يا جارتي!” وكأنها عبارة شوق. كانت مصابيح الإنارة في كل مكان، فقمت بجولة عليها لإطفائها كلها، ولم أترك سوى ضياء المدفأة، الذي كان من دون ألسنة نار، لكنه متوهج، ويرخي بانعكاساته على بشرة إيف. لم نكن على عجلة من أمرنا لكي يلتحم جسدانا، كنا نريد اولاً أن نتهامس ببطء ودفء، بنبرة خفيضة، على مقربة من العيون، وقد تشابكت أصابعنا.
كنت أتلذذ بارتشاف صوتها، ونفَسها، وضحكاتها المتزنة، وذراعيها المسترخيتين. كنت أمسد ثيابها براحة يدي المنبسطة وكأنها خصلات شعر متمردة. كان قلبها يدق في راحة يدي”.
كان ذلك أول لقاء حقيقي بين الجارين وقد تجاوز الكسندر كل تمنُعاته وتساؤلاته “حول الاتّزان والتهور، الزوال والدوام، وما سيأتي بعد “. ليس إيف وحدها من انتصرت على خمولها،هو أيضاً صار يفكر بوضوح ويقول في نفسه: “لم يعد في وسعي الإصغاء، كان رأسي مضطرماً، ولا رغبة لدي على الإطلاق في مقايضة هذه اللحظة بأفكار متعقلة”. كلاهما كان منتشياً بما أوحى لهما ذلك الغريب في حديثه عن المستقبل، فاقبلا من جديد على معانقة الحياة، فكان ذلك المساء، وتلك اللحظة التي يتداعى أمامها العقل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here