في مدينتنا قندري!!

من حكايات جدتي التي علقت في ذاكرتي وكنت ألح عليها أن تحكيها هي قصة “القندري” , وهو حسب وصفها رجل يتلثم بالسواد ويختبئ في بساتين بغداد , ويعيش في الظلام مثل خفافيش الليل , ويقوم بخطف البشر ويسلبهم وأحيانا يقتلهم.

وهو يرمي بخطافته على الشخص الراجل (الماشي على قدميه) ليلا فيشد على قدميه بالحبل ويسقطه أرضا ثم يمسكه ويفعل ما يفعل به.

والخطاف عبارة عن حبل طويل في نهايته عقدة تسمى “خراطة” إذا أصابت الماشي فأنه سيكون ضحية للقندري.

أو أنه عبارة عن حبل طويل في نهايته “شص” كبير يصيد البشر كما تصاد الأسماك.

وتمضي جدتي بعد إلحاحي بوصف العديد من القصص وبتفاصيل دقيقة , فتثير الرعب في قلبي وتملأني خوفا من السير في الظلام منفردا.

ويبدو أن أعداد هؤلاء كانت كثيرة في ذلك الزمان , وكانوا يمسكون بالشخص ويأخذون ما عنده وما عليه وأحيانا يقتلونه.

وقد تذكرت هذه القصة وأنا أتأمل حالنا , فقلت مخاطبا جدتي التي تتوسد الثرى: يا جدتي لقد أصبحت مدينتنا بلاد القندري!!

فاهتز قبرها وقالت: لا تقل هذا إنهم كانوا في الزمان الصعب!

قلت: يا جدتي لا يوجد أصعب من هذا الزمان في تأريخنا!

قالت: وماذا تقول؟

قلت: يا جدتي في مدينتنا العشرات كالقندري , ويبدو أنه قد ترعرع فيها وعبّر عن سلوكه , وعندما غابت قدرات منعه إنفلت بشراهة.

يا جدتي القندري يقتل في وضح النهار , ويركب السيارات الحديثة ومدجج بالسلاح.
ولا يقتل الإنسان لأنه بحاجة إلى ما عنده وما عليه , بل لأسباب أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.

قالت: لا أفهم ما تقول!!

قلت: القندري يا جدة!!

قالت: أي قندري..؟!

قلت: القندري في كل مكان وأنتِ في القبر , ولا أدري إذا هو يفكر بنبش القبور لم أتأكد بعد.

– يا جدتي القندري..القندري…!!

قالت: أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم!!

قلت: هذا لا ينفع !!

قالت: الله يحفظكم من القندري!!

وصحوت وأنا في رعب والعرق يتصبب من بدني , ما للحلم الغثيث الذي زارني , وكيف إستيقظت طفولتي في هزيع الليل , لكن القندري ما تركني بل أخذ يضع أمامي سياسته وفلسفته , وكيف سيجعل الحياة أقسى من سقر.

أيها القندري أخرج من مدينة والحضارة والتاريخ , من أين جئت وأين كنت تختبئ؟

جحظت عيون القندري وراح يلوح بخطافه ويكشر عن أسنانه , ويشتهي بشرا مطبوخا بالشظايا والبارود , ويريد أن يتعشى بتشريب وثريد أشلاء , ويسكر بنخب من الجماجم المترعة بالدم المعتق , الذي تسكر به شياطين الأكوان الجحيمية الحمراء.

إنتصرت على نفسي وإحتضنت وسادتي أحسبها مدينتي , غير أن الشمس أيقظتني والعصافير تنامت زقزقاتها , والأطيار تبارت بألحانها , والنخيل تهادت سعفاته وأدّت رقصات التحدي والأمل.

فانتبهت وإذا بمدينتي شامخة صامدة صابرة تتحدى الأشرار , وتحلم بإستعادة مجدها وقلعة عزها.

د-صادق السامرائي

*القَندَري: صياد البشر , ومأخوذة من صياد السمك في لغات أخرى (وهو الذي يرمي الشبكة أو
“الحِذّافة”)
(صياد السمك).kandari

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here