لماذا لا يريد البطريرك ساكو حلا مع رئاسة الجمهورية؟

المحامي وديع شابا

المتتبع للتصريحات والمواقف التي صدرت من طرف البطريرك الكاردينال لويس ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية ورئيسها الاعلى، منذ قيام رئيس الجمهورية الدكتور عبداللطيف رشيد بسحب المرسوم الجمهوري الذي كان اصدره سلفه الراحل الرئيس جلال طالباني في 2013 والقاضي بـ:
1- تعيين البطريرك ساكو رئيسا للكنيسة الكلدانية
2- تعيين البطريرك ساكو متوليا على اوقافها.
يكاد يستنتج قطعا بان البطريرك لا يريد حلا لهذا الاشكال.
فاصراره على كسر ارادة رئيس الجمهورية والانتقاص من مقامه ورمزيته الوطنية كونه رئيسا للعراق انما يعني المطالبة بحل تعجيزي. بمعنى اخر هو طلب لعدم الحل.
خاصة وان رئاسة الجمهورية اصدرت اكثر من توضيح عن سبب سحبها المرسوم وانه ليس للانتقاص او الاستهداف للبطريرك ساكو بقدر ما هو تصحيح لوضع تراه غير قانوني من حيث ان المراسيم تصدر لموظفي الدولة وان البطريرك ليس موظفا حكوميا وبالتالي لا مبرر للمرسوم، ومن حيث مساواته ببقية البطاركة حيث رفضت رئاسة الجمهورية منح مرسوم جمهوري للبطريرك اوا، بطريرك الكنيسة الاشورية، رغم مطالبة الكنيسة الاشورية بهذا المرسوم منذ اكثر من سنة أي قبل الااشكالية مع البطريرك ساكو رغم ان سلف البطريرك آوا، البطريرك المتقاعد مار كوركيس، كان قد منح مرسوما جمهوريا من الرئيس السابق فؤاد معصوم، وكذلك رفض رئيس الجمهورية منح مرسوم جمهوري للبطريرك كوركيس المرتسم حديثا للكنيسة الشرقية القديمة.
ويصر البطريرك ساكو على استرجاع المرسوم ويوظف في ذلك ضغوطات شعبية وكنسية ودبلوماسية ودولية من بينها الخارجية الامريكية، ويزداد اصرارا رغم ان رئاسة الجمهورية رفضت هذه الضغوط ولم تتجاوب معها وبقيت على موقفها ورؤيتها بان سحب المرسوم ليس استهدافا للبطريرك ساكو بل معالجة لامر تراه غير قانوني.

مؤشرات الكيدية في اصدار القرار الرئاسي واضحة من حيث انه في الوقت الذي يبدو فيه توقيت القرار (بعد عودة الرئيس من زيارة ايطاليا وعدم لقاءه بالبابا ومقولات ان البطريرك كان سببا في ذلك)، واسلوبه من حيث صدوره في العلن دون دعوة البطريرك الى الرئاسة وايضاح الموضوع له قبل اصداره، وحصريته في سحب المرسوم الخاص بالبطريرك ساكو دون غيره من رئاسات الكنائس تبدو مجتمعة مؤشرات على الكيدية، وفي مقابلها فان ما سبق ايراده اعلاه من رفض الرئاسة اصدار مراسيم منذ تولي الرئيس لمنصبه، ومن بينها رفضه اصدار المراسيم للبطريركين اوا وكيوركيس هي نقطة تخفف من مؤشرات الكيدية التي يبقى احتمالها موجودا ويحق للبطريرك اتهام الرئاسة بها.
ولكن الكيدية لا تستوجب رد فعل باغلاق الابواب امام الحلول خاصة مع التهويل والترعيب والتصعيد المستمر دون اكتراث بنتائجه على الفرد والعائلة المسيحية العادية.
فلو كانت البطريركية ساعية للحل، وليس للبناء على المرسوم والتصعيد المتعمد بغاية عدم الحل، لكانت فتحت الباب امام المعالجة منذ اليوم الاول لصدور المرسوم الجمهوري عبر اكتفاءها باصدار تصريح رزين وحكيم وهادئ من قبيل الذي اوردناه في مقالنا السابق (بين المرجعيتين الشيعية والكلداني والمنشور على موقع صوت العراق (الرابط في نهاية المقال))، ما كان حصل التصعيد الذي وصل مديات تهدد الامن المجتمعي والسلم الاهلي (راجع بيانات البطريركية وكيف انها تماثل بين سحب المرسوم وداعش، وكيف انها تهدد باستقدام التدخل الاجنبي). وكانت البطريركية قد فتحت الباب واسعا لمعالجة الموضوع بالقنوات الهادئة مستثمرة في مقام مرجعيتها وعلاقاتها واحترام المرجعيات الدينية والسياسية والمجتمعية لها.

من هنا فان اصرار البطريرك ساكو على الحل التعجيزي بكسر ارادة رئاسة الجمهورية واسقاط كبريائها وكرامة مقامها الرئاسي الوطني الكبير، يثير التساؤل عن لماذا لا يريد البطريرك ساكو حلا مع رئاسة الجمهورية؟
للاجابة على التساؤل لا بد من اخذ عدة عوامل في الاعتبار قد تشكل احداها او بعضها او جميعها مجتمعة السبب في العناد البطريركي ورفض الحلول حتى يمكن القول ان البطريرك ساكو يبحث عن مشكلة لكل حل وصولا الى اللا حل.

اول هذه العوامل والتي يكاد يجمع المتابعين للموضوع ممن يعرفون التكوين الشخصي للبطريرك هو نرجسيته المبالغ فيها. فالبطريرك ساكو يعتبر نفسه الاوحد بين كل المرجعيات المسيحية ويعتبر نفسه الاوحد في الكنيسة الكلدانية، حتى انه ورغم دعوته واستقدامه للتدخل الاجنبي حيث يرى شخصه فوق الوطن العراقي والسيادة العراقية وان قضيته تستوجب تدخلا دوليا وصولا الى تهديده باقامة دعوى في المحاكم الدولية، فانه في المقابل لم يرى في تعامله معها ضرورة للاستئناس والتشاور مع اساقفة الكنيسة الكلدانية الذين يشكلون معه سينودس الكنيسة الذي تعود له اتخاذ القرارا الكبرى، ولا التشاور مع اقرانه رؤساء الكنائس الاخرى.
المتعاملون مع البطريرك ساكو من اساقفة وعلمانيين من الكلدان او الكنائس الاخرى يعانون ويتشكون من نرجسيته وانفراده في اتخاذ القرارات واعلان المواقف والتي يكون شخصه محورها على قاعدة لياتي من بعدي الطوفان.
(يضاف الى المقطع دعوته ان بطريرك الكلدان هو من يترأس مجلس كنائس العراق المقترح بعد انسحاب الكلدان من مجلس رؤساء الكنائس. دليل اخر عى النرجسية والتعامل الفوقي)

هذه النرجسية قد لا تكون لوحدها كافية لتعنت البطريرك وتصعيده للامور ودفعها نحو التازيم اكثر، فهناك الطموح السياسي له.
البطريرك ساكو سياسي بامتياز حيث لا يكتفي باعلان مواقف سياسية عن القضايا الوطنية او القضايا التي تخص المسيحيين، فذلك امر طبيعي مفهوم بل وواجب، ولكنه يقوم باكثر من ذلك في تدخلاته بتفاصيل العملية السياسية والذي قام بتاطيره بشكل تنظيم سياسي هو المنبر الكلداني لتكون واجهته التنظيمية السياسية وذراعه في العمل السياسي المؤسساتي كالانتخابات مثلا.
فعلى مستوى العمل السياسي التشريعي، وعلى سبيل المثال، كان طرفا مفاوضا رئيسيا في تشكيل قائمة حمورابي الانتخابية لانتخابات 2021 للبرلمان العراقي حيث فرض مرشحيه احدهم من الرابطة الكلدانية والاخر من البطريركية في القائمة. وكذا على مستوى السلطة التنفيذية حيث سعى لتمرير مرشحته الدكتورة هناء عمانوئيل في كابينة عادل عبدالمهدي والتي تم اسقاطها في البرلمان من قبل الكوتا المسيحية التي ضمت نائبين عن بابليون التي طالبت بحقها في ترشيح الوزير المسيحي اسوة ببقية الكتل البرلمانية التي تقدم مرشحيها.
ومع فشل قائمة حمورابي وفشل البطريرك ساكو في فوز أيا من مرشحيه للبرلمان في دورته الحالية، ومع الاستحواذ المطلق لحركة بابليون على الكوتا بات يشعر البطريرك بانسداد الطريق امام طموحه السياسي خاصة بعد ان فشل في استيعاب حركة بابليون كما سعى في البدايات عندما وجه لاعضاء البرلمان ومن بينهم نواب بابليون دعوة للعشاء في البطريركية الكلدانية وهي البداية التي توقفت سريعا بسبب محاولته من دون التشاور مع الكوتا تمرير مرشحته الدكتورة هناء عبر الابواب الخلفية، مما جعل الاستيعاب او التوافق غير ممكن فالبطريرك ساكو لا يقبل الا ان يكون صاحب القرار وليس شريكا في القرار.
ومع اتهام البطريرك ساكو بان بابليون هم وراء قرار الرئيس، وهي تهمة لا تخلو من الصواب الى حد ما، فانه يرى ان الطريق الوحيد لاستعادة حظوظه ومساعيه للدور السياسي هو في تحجيم بابليون سياسيا واضعافها وزعزعة شراكاتها ضمن البيت الشيعي من خلال اجبار رئاسة الجمهورية على سحب قرارها، فاستهداف رئاسة الجمهورية ومحاولة فرض سحب القرار هو في حقيقته استهداف لبابليون بالدرجة الاولى وتعزيز دور البطريرك السياسي خاصة مع ضعف الاحزاب السياسية المسيحية والتي عملت البطريركية على مدى سنوات الى اضعافها مستغلة واقع الاحزاب نفسها وصراعاتها وضعف اداءها السياسي والبرلماني. يضاف الى ذلك تسقيط بابليون مجتمعيا (ولبابليون من الممارسات ما يبرر هذا التسقيط).

من العوامل الاخرى التي تدفع البطريرك الى اقفال باب الحلول هو ضمان تحصينه من اية ملاحقات قانونية بسبب الدعوى القضائية التي اقامها ريان كلداني (رئيس حركة بابليون) ضد البطريرك ساكو والتي اخذت مسارها القانوني وصولا الى مرحلة طلب حضوره كمتهم بحسب القوانين العراقية الى المحكمة للادلاء بشهادته في القضية التي ربما يشعر ان ريان سيربحها مما يعني اصدار حكم قضائي بتغريم البطريرك وطلب التعهد منه بعدم تكرار الاساءة، وهو قرار، اذا سارت الامور بهذا السيناريو السيء، سيصيب البطريرك بمقتل، واذا ما اراد تفادي المحكمة فان عليه طلب التسوية والتصالح مع ريان وهو سيناريو لا يقل سوءا عن سابقه من حيث انه يرد الاعتبار لريان ويتراجع عن الكم الهائل من التهم والتصريحات التي اطلقها بحق ريان في العلن.
وفي هذه القضية تبدو نرجسية البطريرك بجلاء من حيث انه في الوقت الذي قام البطريرك بنفسه باقامة دعوى قضائية على النائب السابق، السيد جوزيف صليوا، على خلفية تصريحات له بشان ادارة املاك الكنيسة الكلدانية والتي اعتبرها البطريرك تشهير بغبطته، فاقام دعوى ضد النائب جوزيف بتهمة التشهير وطالبه فيها بتعويض مليار دينار ولكنه خسر القضية. فانه ينتزع حق ريان في مقاضاته ويقول كيف يمكن مقاضاة مرجعية دينية كنسية هي البطريرك ساكو.
كثيرون يعتقدون، واعتقادهم يتحمل الصواب، ان انسحابه من بغداد الى اربيل هو للهروب من الملاحقة القضائية، وان اصراره على المرسوم الجمهوري هو لتحصينه على الاقل معنويا.
ناهيك عن ان لجوءه الى اربيل سيشكل ضغطا اضافيا على رئاسة الجمهورية، بالاضافة الى فتح الابواب السياسية له خاصة وان الانتخابات في الاقليم وبغداد على الابواب.

عامل اخر لا يمكن الغاء تاثيره في الاصرار البطريركي على مخرج واحد دون غيره من مخارج حل الاشكال هو ان البطريرك كان امام ضغط الوفاء بوعده الذي اعلنه في اكثر من مرة وعلى اكثر من منبر بانه سيتقاعد عن البطريركية عند بلوغه الخامسة والسبعون من العمر، وهو قرار لقي ترحيبا واسعا، في العلن والخفاء، بين اكليروس ومؤمني الكنيسة الكلدانية وربما بقية الكنائس، وبذلك كان امام استحقاق الايفاء بوعده في اجتماع الاساقفة الذي كان قد تم تحديد انعقاده في بغداد للفترة بين 20 الى 25 من شهر آب القادم. وكان جليان، حتى قبل الاشكالية، ان البطريرك يخلق اجواء في الاعلام وبين الشعب للتراجع عن قرار التقاعد وتبرير ذلك بان التقاعد اثناء هذه الحملة (التي هو شارك في خلقها وتصعيدها) هو رضوخ وانهزامية امام مجموعة مليشياوية لا اخلاقيات لها، وهذا ما لا يليق بالبطريرك وعليه يتطلب تاجيل التقاعد الى ما شاء الله.
وفي هذا السياق ياتي قراره بتاجيل الاجتماع اعلاه رغم امكانية انعقاده في اربيل حيث كل المستلزمات متاحة وحيث سبق للكنيسة الكلدانية عقد هكذا اجتماعات، بل واجتماعات اوسع، في مقرها البطريركي في اربيل.

ويبقى السؤال قائما ويبحث عن الاجابة التي ربما ستتاخر الاجابة اليقينية عنها وتبقى الى حين ذلك مرهونة بالتحليلات والاراء والتي حاولنا في هذا الموضوع طرح قسما منها.

تبقى الاسئلة التي تفرض نفسه على اطراف المشهد ومتابعيه ومناقشيه هي من قبيل:
هل ان مضامين المرسوم وتداعيات سحبه تستحق هذا التصعيد؟ خاصة مع وجود اتفاق تام ان شق التعيين في المرسوم هو موروث ذمي يجب الغاءه فالبطاركة ورؤساء الكنائس لا تعينهم الدولة، وان التولية على الاوقاف لها اليات بديلة.
وهل هناك مخرج للازمة؟
من يطرح المخارج؟ كيف؟ متى؟
اسئلة سنتناولها في مقالات قادمة..

الى اللقاء

25-7-2023

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here