قصة : فاجر .. لأنطون تشيخوف

قصة : فاجر

لأنطون تشيخوف

ترجمة مهدي قاسم ــ عن المجرية

وقف أمام قاضي التحقيق فلاح صغير الحجم ، نحيف الجسم ، رث الثياب ، مرتديا قميصا ملونا ، بدا وجهه المجدور مشعرا , بينما عينه التي بالكاد تُرى من تحت حاجبيه الكثيفين ، تعبر عن كآبة وخمول ، وثمة إهمال ملحوظ يظهر على شعر رأسه المجعد الذي بدا إنه لم يُمشط منذ فترة طويل ، الأمر الذي أضفى على مظهره شيئا من غلاظة وتوحش ، وكانت قدماه تبدوان عاريتين ..

ـــ غينيس غريغورييف.. ــ بدأ قاضي التحقيق كلامه ــ تقدم إلى الأمام و أجب على أسئلتي ، في اليوم السابع من يوليو من العام الحالي صباحا ، كان حارس المحطة إيفان سيمجونوف أكينوفوف سائرا على طول المسافة 141 فرسخ ، ضبطك متلبسا بفك برغي الصمولة الذي يشّد السكة بالعارضة الخشبية , فهذا هو البرغي ، الأمر الذي دفعه للقيام بعملية توقيفك أيضا .. فهل هذا صحيح ؟.

ــ هااا ؟ .. ماذا ؟..

ــ هل فعلا هكذا وقع الأمر ، مثلما يروي الحارس أكينوفوف ؟.

ـــ من المعلوم إن شيئا من هذا القبيل قد حدث .

ــ حسنا .. السؤال التالي هو : لماذا قمت بتفكيك البرغي و انتزاعه من مكانه ؟ .

ــ ماذا ؟…..

ــ دعنا من ماذاتك هذه ، إنما أجب على أسئلتي :لماذا أخرجتَ البرغي من مكانه؟ .

ــ لو لم أكن بحاجة إليه لما أخرجته ــ تمتم غينيس ، ناظرا إلى السقف .

ــ ولكن من أجل ماذا كنتَ بحاجة إليه ؟.

ــ البرغي ؟ .. طيب .. نحن نصنع رصاصا ثقيلا من البراغي .

ــ من هم هؤلاء ال نحن ؟ .

ــ نحن ، الشعب .. فلاحو أكليموفسكي .. كما تعلمون .

ــ هل تسمع صديقي !..لا تجعل من نفسك أبله ..إنما تحدث بوضوح مفهوم .. فعبثا تكذب لي عن رصاص ثقيل .

ـــ أنا لم أكذب طوال حياتي .. فكيف أكذب الآن ؟! ــ دمدم غينيس وهو يرمش بكثافة ــ أم ربما يعتقد حضرة المحترم أنه دون رصاص ثقيل يمكن عمل أي شيء كان ؟ .. إذا وضع الصياد دودة أو سمكة صغيرة في الصنارة فهل يستطيع إنزالها إلى قاع الماء بدون رصاص ؟ .. و بعد هذا ، يقول أنا أكذب ! ــ يعلق جينيس ضاحكا ثم يضيف ــ ليأخذ الشيطان الدودة إذا كانت تطوف فوق سطح الماء فقط ، فراخ السمك ، سمكة بايك ، سمك البلمة ، فهذه الأسماك تستوطن في قاع المياه ، و الصنارة التي تطفو فوق الماء فلا يبتلعها غير سمكة المولي ، بينما سمكة المولي نادرة الوجود في أنهارنا ، لأنها أصلا تستهوي العيش في المياه العميقة والواسعة .

ــ ولكن لماذا تتحدث لي عن سمكة المولي ؟..

ــ ماذا ؟.. لأن السيد المحترم هو الذي يسأل ، بالمناسبة عندنا السادة يصطادون هكذا و بنفس الطريقة ، بل حتى الطفل ، مهما كان عديم الخبرة ، فإنه لا يصطاد بدون مسمار ثقيل ، حسنا ، طبعا ، الذي لا يفهم شغله يصطاد بدون رصاص ثقيل أيضا، فعبثا يوجد قانون للمجنون .

ـــ ولكن لو كان يهمك الرصاص الثقيل لكان بأمكانك أن تشتري قطعة رصاص ، طلقة بندقية أو .. مسمارا حديديا .

ـ لا يعثر الإنسان على قطعة رصاصة على قارعة الطريق ، فينبغي شرائها .. بينما المسمار الحديدي غير مناسب … لا يوجد أفضل من برغي …فهو ثقيل ، ويوجد فيه ثقب أيضا ..

ـــ هذا الإنسان يجعل من نفسه مجنونا تماما …كأنما البارحة ولد فقط .. أو كأنما قبل يوم سقط من السماء فجأة … ألا تفهم أيها الأحمق أنه إلى ماذا كان سيؤدي نزع هذا البرغي من مكانه ؟، لو لم ينتبه حارس المحطة لذلك ، لأنحرف القطار عن مساره حينذاك و تسبب بموت بشر ..و أنت .. كنت ستقتل بشرا ..

ــ ليحفظني الله من هذا الفعل حضرة المحترم ، لماذا أنا أقتل بشرا ؟، هل أنا وثني ، أم فاجر ؟ ، شكرا للرب ، سيدي الكريم ، لقد عشتُ أوقاتا طيبة ، وليس فقط لم أقتل أحدا ، إنما حتى لم تخطر على بالي مثل هذه الفكرة … أيتها الأم العذراء كوني رحيمة …إلى أين تذهب بتفكيرك سيدي المحترم !..

ــ و أنت ماذا تفكر؟.. كيف اعتادت القطارات أن تخرج عن مسارها ؟، كلما في الأمر ، ما عليك إلا إخراج أثنتين أو ثلاثة من البراغي لتقع المصيبة .

يبتسم غينيس و ينظر نحو القاضي بشكل غير مصدق ويعقب قائلا :

ــ حسنا ، منذ سنوات ، و أهالي القرية كانوا يقومون بانتقاء وفك البراغي ، رغما على ذلك فأن الرب الطيب قد حمانا من وقوع مصيبة كهذه … ومع ذلك يحلو لك أن تقول أن القطار قد ينحرف عن مساره ! … قتل إنسان …نعم ، إذا رفعتُ السكة الحديدية ، أو ــ أضيف هذا ايضا من عندي ــ إذا وضعتُ عارضة حديدية بشكل متقاطع على السكة ، فربما آنذاك قد ينقلب القطار …ولكن هكذا فقط … أ ، أما .. ولكن !..

ــ ولكن حاول أن تفهم ، أنه بهذا البرغي يشدون السكة بلوحة القاعدة .

ــ أنا أفهم … ولكننا لا ننتزع الكل …نترك شيئا ما هناك … نحن لا نفعل ذلك بدون عقل … نحن نفهم هذا …

يتثاءب غينيس ، ثم يقوم بإشارة صليب حول فمه .

ـــ في العام الماضي انحرف هنا قطار عن مساره ، حسنا ..هل أصبح الأمر مفهوما لك لماذا ؟ــ قال قاضي التحقيق ..

ــــ تؤمر بما يعجبك ..

ــ أقول هل اصبح الآن مفهوما لك لماذا انحرف قطار عن سكته في العام الماضي ؟… هل نفهم الآن ؟ …

ــ حسنا .. لهذا يدرس الإنسان حضرة المحترم ، لكي يفهم شيئا من هذا و شيئا ذاك … يعرف الرب الكريم لمن يهب العقل و الذكاء … سوف يكتشف السيد الموقر حالا ما هو هذا الشيء … بينما حارس المحطة نفسه ، مثل أي فلاح بلا ذكاء … فقط يمسك الإنسان من ياقته و يجره خلفه ، بينما ينبغي عليه أن يفكر قليلا ، بعد ذلك لينقضّ على الإنسان المسكين من رقبته ، عبثا ، فليس للفلاح غير عقلية فلاح ، كما أرجو من حضرة المحترم أن يتفضل و يدّون إن حارس المحطة صفعني مرتين ، بل وفي مرة ثالثة ضربني على صدري ..

ـــ عندما قاموا بعملية تفتيش البيت عندك ، وجدوا برغيا ثانيا هناك .. طيب ، هذا البرغي الثاني متى و أين قمتَ بإخراجه من محله ؟.

ـــ تقصد البرغي المعدني الذي عثروا عليه في الصندوق الأحمر ؟..

ــ لا أعلم أين .. فيكفي أنهم وجوده عندك .. متى قمتَ بتفكيكه ؟..

ــ لم أقم أنا بفك هذا البرغي ، إنما إغناشكا هو الذي أعطاني إياه ، ابن سيمون الأعور … ولكن أنا أتحدث عن البرغي الذي كان تحت الصندوق , وكذلك عن الذي كان في الزلاجة عند باحة المنزل ، فهذه البراغي المعدنية قمنا أنا ومتروفنال سويا بتفكيكها ..

ــ أي ميتروفنال هذا ؟ .

ــ بتروف ميتروفنال ؟ … حضرتكم الموقر لم تسمعوا عنه بعد ، إنه يقوم بنسج شبكات صيد ثم يقوم ببيعها للسادة ، هو بحاجة إلى كثير من هذه البراغي ، و إذا حسبنا جيدا، فكل شبكة من هذا النوع تحتاج إلى عشر قطع على الأقل .

ــ هل تسمع ؟ : تنص المادة 1081 من قانون العقوبات الجزائية أن كل عمل تخريبي للسكك الحديدية التي قد تسبب حادثة انزلاق للقطار المنطلق، والتي يكون الفاعل على بينة من مغبة فعله …هل تفهم ؟…إذا … عرف … بينما أنت كنتَ تعرف ماذا سينتج عن فعلك هذا …يعني أن كل فعل تخريبي من هذا النوع سيُعاقب بالأشغال الشاقة و النفي .

ــ بالطبع إن حضرة المحترم يعرف هذا جيدا … بينما أن جاهلا مثلي من أين يستطيع أن يدرك أمرا كهذا؟ ..

ــ أنت تفهم كل شيء .. فقط تكذب … تتظاهر بعدم المعرفة فحسب ..

ـــ لماذا أكذب على وجه الإطلاق ؟ .. تفضل أسأل في القرية ..إذا كنت لا تصدقني .. بدون رصاص ثقيل لا يمكن اصطياد غير سمك الكارب بل الأسوأ أيضا فقط سمك الغجر ، ولكن بلا رصاص حتى هذا لا يبتلع الصنارة !…

ــ طيب تحدث لنا شيئا عن سمك البلمة أيضا ــ علق قاضي التحقيق مبتسما .

ــ لا توجد عندنا سمكة البلمة ..و إذ رمينا الصنارة فلن نصطاد غير السمك الأبيض على الأغلب .. و هذا أيضا نادرا ! .

ــ كفى !..

بعد ذلك تسود لحظات من صمت .. ينقل غينيس ثقل جسده على رجله الثانية .. ثم يحدق نحو الطاولة المغطاة بنسيج من صوف أخضر .. وهو يرمش بكثرة و سرعة ، وكأنه لا ينظر إلى نسيج الصوف الأخضر ، أنما إلى الشمس .. قاضي التحقيق يكتب بسرعة …

ــ هل يمكنني الانصراف ؟ ــ يسأل غينيس بعد لحظة توقف ..

ـــ لا ، سأكون مضطرا لاعتقالك ، ووضعك في الحبس …

يترك غينيس حركة الرمش ، و يرفع ما بين حاجبيه ، ملقيا على قاضي التحقيق نظرة متسائلة ..

ـــ كيف في الحبس ؟.. حضرة المحترم !.. أنا ليس عندي وقتا لذلك .. يجب عليّ أن أذهب إلى السوق .. ينبغي أن أتسلم من يغور ثلاثة روبلات مقابل الشحم المقدد ..

ــ أسكت .. لا تزعجني !…

ـــ إلى الحبس !.. إذا يوجد من أجل ماذا ، سأذهب برحابة صدر .. . ولكن فقط هكذا … ولكن فعلا لماذا ؟ … أعتقد بأنني لا سرقتُ ولا تعاركتُ ..أم لعل بسبب الضرائب تنتابك الشكوك …أرجو من سيدي المحترم أن لا تصدق ستاروستا .. تفضل أسأل السيد كاتب المحضر … فستارستا رجل ماكر .

ــ اسكت !…

ـــ أنا صامت أصلا ــ دمدم جينيس ــ أما كون ستاروستا يكذب فأنا مستعد لأقسم على ذلك …نحن ثلاثة أشقاء : كوزما غريغورييف ، يغورغريغورييف ، و أنا ، غينيس غريغورييف …

ــــ قلت لا تزعجني خلاص !… يا سمينوف ــ صاح قاضي التحقيق ـــ قُد من هنا هذا الموقوف .

ـــ نحن ثلاثة أشقاء ــ تمتم غينيس غريغورييف ــ في أثناء ذلك أحاطه حارسان مسلحان مفتولا العضلات وقاما بإخراجه من الغرفة بينما واصل هو دمدمته ــ ولكن ما من شقيق مسؤول عن أفعال شقيق آخر …كوزما لا يدفع .. فعليك يا غينيس أن تتحمل مسؤولية ذلك … فهل هذه هي العدالة ؟… توفي جنرالنا لتغمره سعادة الرب …فلا يوجد الآن من يُعلّم القَضاة … إذ ينبغي المقاضاة بناء على العقل وليس على شكليات ، ولا على أساس السمع … لن اندم حتى لو شدوني على آلة التعذيب أيضا .. ولكن فقط أن أعرف لماذا .. فقط أن يحدث ذلك وفقا للضمير …

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here