الرجل الذي مات ضحكا : قصة قصيرة

الرجل الذي مات ضحكا : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

من أعاجيب الحياة والخلق إنه ولد بضحكة قوية وعالية ولكنها كانت لطيفة ومرحة و ذات مسحة من طرافة ، أكثر من إن تكون صرخة احتجاج وامتعاض ، مثلما في حالة معظم ممن يغادرون رحم أمهم الدافئ والمحيط بالأمان والطمأنينة ، والذين يخرجون بشكل قسري ليرتطموا بصلابة هذا العالم البارد القاسي ، رغما على إرادتهم ..

حتى باتت تلك الضحكة المدوية البهيجة المعبرة عن مسّرات روحية زاخرة ، ترافقه كصديق حميم ، كبصمة أو علامة فارقة إلى درجة كان بإمكان أي واحد الذي سمع تلك الضحكات الرنانة ــ مرة واحدة ــ ليُميزها فيما بعد و يعرف صاحبها ، حتى ولو على مسافة معينة….

كان يضحك ضحكته المعروفة تلك لأبسط الأسباب حينا وكذلك لأسباب في منتهى الجدية أيضا ، أحيانا أخرى ..

حينذاك كان يضع يده على بطنه تخفيفا لألم بسبب شدة الضحك ..

ربما لم يكن ــ أصلا ــ ليحتاج إلى سبب أو محفز ودافع للضحك حتى يطلق ضحكته المدوية العميقة القادمة من صميم القلب ــ لحد تدمّع العين وكأنه يبكي بحرقة لأن الضحكة كانت مرسومةعلى ملامحه كوشم لطيف ! ــ ، إنما بالنسبة له العالم كله ، بل بكل مخلوقاته العجيبة والغريبة ــ بشرا و بهائم ــ كانت تبدو له عبارة عن مُخيّم سيركي مثير للضحك والقهقهة وسط مآسي وفواجع من فعل بشر أشرار و أقدار قاسية تقررها قوى مجهولة لأسباب غير منطقية..

كنا ذات مرة في موكب تشييع أحد المعارف ، وكان هو معنا أيضا ، حيث لاحظتُ يبذل جهدا جبارا لكبح جماح ضحكته المدوية المحصورة ، وهو ُيشير إلى أنف رجل دين أنف طويل وسميك الذي يكاد يبلغ كرشه الضخم والذي كان يصدر أصواتا مضحكة عجيبة و لهاثا متواصلا ، بصحبة حراس شخصيين له ، وكنتُ أنا أحّثه على السيطرة على ضحكاته المستنفرة للخروج مدوية ، وأن يبقى ساكتا لحين إنهاء مراسيم التشيع والدفن ..

.فكان هو يبذل أقصى جهده فعلا ليكبت ضحكاته الموشكة على الانفجار ..

. وفي أثناء مراسيم دفن الميت أثارت انتباهه صرخات وعويل زوجة الميت وهي تضرب وجهها وصدرها وتريد أن ترمي بنفسها على نعش زوجها في الحفرة ..

آنذاك .. آنذاك بالذات كـأنما بتوقيت محدد ــ وجدته يفقد السيطرة على نفسه ، مهتزا بضحكة كبيرة وقوية تخض جسده كله خضا عنيفا ، ولكنني سرعان ما وضعتُ يدي على فمه لمنع انطلاقة الضحكة القوية الموشكة على الخروج والانفجار وهو يهمس بين ضحكة مكبوتة وأخرى أنظر إليها كيف تمثل حزنا على زوجها ..

ــ لماذا ؟..وماذا في ذلك ..

ــ أنها عشيقة ذلك الرجل الواقف جنبها . . حتى عرضت عليه فكرة التخلص من زوجها قبل وفاته ..

وعبثا حاولت إن أفهمه أن هذه الحال تخص رجالا أيضا..

إلا إن عويل و صرخات الزوجة المتفجعة ارتفعت مرة أخرى وهي تقول بنبرات مخنوقة ومتقطعة ومتشنجة :

ــ آه يا ربي ادركني في محنتي و الحقني بزوجي الآن ..الآن …موتني موتني أنا أيضا يا ربي .…

وعند هذا الحد ،رأيته هو يفقد السيطرة تماما على ضحكاته المتراصة المتشنجة الُملحة بالخروج الانطلاق بحرية مريحة كاملة وعلى نحو مددِ حقا :

ــ ههههههههه.. هههههههههه ..ههههههه.. ههههههههه ..

وفي نفس الوقت أخذتُ أنا أبتعد عنه شعورا مني بإحراج وخجل وخوفا من احتمال إعطاء المشهد الكوميدي انطباع عني وكأنني متواطئ معه ..

بينما استمر هو بإطلاق ضحكاته الكبيرة القوية العميقة باهتزازات ارتجاجات جسدية ملحوظة ، وعلى نحو وكأنه يتعرض لصعقات كهربائية متتالي: ـ

ـ هههههههه … ههههههه ..ههههههه .. هههه ..ههه ..هه ..

و ……

إذا به يسقط منهارا فجأة ، كشجرة عملاقة خلعتها بغتة عاصفة وعابرة ومسارعة..

ويتمدد بطوله المديد على أرض المقبرة ، خامدا، هامدا ، عديم الحركة والتنفس ..

جستُ نبضه فكان متوقفا تماما ..

فخاطبتُ الآخرين الذين تركوا الميت و تجمعوا حولنا :

ــ مع الأسف يبدو إنه قد مات …ضحكا !..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here