بمناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية: العدالة في القرآن الكريم (ح 8)

الدكتور فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميسر: قال الله تعالى عن كلمة عدل ومشتقاتها ” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ” ﴿الأنعام 1﴾ يَعْدِلُونَ: يَعْدِلُ فعل، ونَ ضمير. بربّهم يعدلون: يسوّون به غيره في العبادة. الثناء على الله بصفاته التي كلّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي أنشأ السموات والأرض وما فيهن، وخلق الظلمات والنور، وذلك بتعاقب الليل والنهار. وفي هذا دلالة على عظمة الله تعالى، واستحقاقه وحده العبادة، فلا يجوز لأحد أن يشرك به غيره. ومع هذا الوضوح فإن الكافرين يسوون بالله غيره، ويشركون به. قوله جل جلاله “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” ﴿الأنعام 115﴾ عدلا اسم، وتمت كلمة ربك وهي القرآن صدقًا في الأخبار والأقوال، وعدلا في الأحكام، فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة. والله تعالى هو السميع لما يقول عباده، الحليم بظواهر أمورهم وبواطنها. قوله سبحانه “قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا ۖ فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ۚ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ” ﴿الأنعام 150﴾ بربّهم يعدلون: يسوّون به غيره في العبادة. يَعْدِلونَ: يشركون، يجعلون له نداً. قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن الله تعالى هو الذي حرَّم ما حرَّمتم من الحرث والأنعام، فإن شهدوا كذبًا وزورًا فلا تصدقهم، ولا توافق الذين حكَّموا أهواءهم، فكذبوا بآيات الله فيما ذهبوا إليه من تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، ولا تتبع الذين لا يصدقون بالحياة الآخرة ولا يعملون لها، والذين هم بربهم يشركون فيعبدون معه غيره. قوله عزت قدرته “وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” ﴿الأنعام 152﴾ فَاعْدِلُوا: فَ :حرف واقع في جواب الشرط، اعْدِلُ فعل، وا ضمير. ولا تقربوا أيها الأوصياء مال اليتيم إلا بالحال التي تصلح بها أمواله ويَنْتَفِع بها، حتى يصل إلى سن البلوغ ويكون راشدًا، فإذا بلغ ذلك فسلموا إليه ماله، وأوفوا الكيل والوزن بالعدل الذي يكون به تمام الوفاء. وإذا بذلتم جهدكم فلا حرج عليكم فيما قد يكون من نقص، لا نكلف نفسًا إلا وسعها. وإذا قلتم فتحرَّوا في قولكم العدل دون ميل عن الحق في خبر أو شهادة أو حكم أو شفاعة، ولو كان الذي تعلق به القول ذا قرابة منكم، فلا تميلوا معه بغير حق، وأوفوا بما عهد الله به إليكم من الالتزام بشريعته. ذلكم المتلوُّ عليكم من الأحكام، وصَّاكم به ربكم؛ رجاء أن تتذكروا عاقبة أمركم. قوله عز شأنه “وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ” ﴿الأعراف 159﴾ وَ بِهِ يَعْدِلونَ: يعدلون فيما بينهم و بين غيرهم. ومِن بني إسرائيل من قوم موسى جماعة يستقيمون على الحق، يهدون الناس به، ويعدلون به في الحكم في قضاياهم.

جاء عن موقع مجلس حكماء المسلمين في اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، مجلس حكماء المسلمين: إرساء العدالة الاجتماعية مسؤولية أخلاقية وإنسانية مشتركة وضرورة أساسية لبناء مجتمعات مزدهرة: أكَّد مجلس حكماء المسلمين برئاسة فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف أنَّ إرساء العدالة الاجتماعية في العالم أجمع هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية مشتركة تقع على عاتق الجميع وضرورة أساسية لبناء مجتمعات مزدهرة؛ حيث يعيش فيه كل فرد بكرامة واحترام، داعيًا إلى ضرورة بذل المزيد من الجهود لتعزيز العدالة الاجتماعية من خلال تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية وتوفير الفرص المتساوية للجميع، بغية تحقيق التنمية المستدامة والسلام والاستقرار. وقال مجلس حكماء المسلمين، في بيانٍ له بمناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية الذي يصادف 20 من فبراير من كل عام، إن التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي تواجه العالم في الوقت الحالي، أكَّدت الحاجة الملحَّة إلى تحقيق العدالة وتوفير الفرص المتساوية للجميع، بغض النظر عن الجنس، أو العرق، أو الدين، أو الطبقة الاجتماعية، لافتًا إلى أن تعاليم الدين الإسلامي السمحة أرست مبادئ العدالة الاجتماعية في مختلف جوانب الحياة. وأضاف البيان أن وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقَّعها فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية في العاصمة الإماراتية أبوظبي في عام 2019، نصَّت على أهمية ترسيخ قيم العدالة الاجتماعية والعناية بالفقراء والمحتاجين والمهمشين والمحتاجين وتقديم يد العون لهم. وفي هذا الإطار يؤكد مجلس حكماء المسلمين ضرورة العمل على إنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني وحماية المدنيين الأبرياء في قطاع غزة وضمان وصول المساعدات الإنسانية لهم، وتوفير حياة كريمة وآمنة لهم ولعائلاتهم بعد أن فقدوا السكن والمأوى.

تكملة للحلقات السابقة جاء في مجلة رسالة القلم عن العدالة الإجتماعية في القرآن الكريم للشيخ قصي الشيخ علي العريبي: فلم يرد في الفقه الإسلامي ولا في دستور أي بلد التصريح بعقاب شخص بسبب نيّة القتل أو السرقة، وكما لا يثاب بسبب نيّته الحسنة في الخدمة، وإن شمل مثل هؤلاء الأفراد بنوع من التكريم تفضلاً بسبب تلك النيّات وقد تظافرت الروايات التي صرّحت بجزاء الخير تفضلاً منه سبحانه كونه أرحم الجميع، لكنّه لا يعاقب على نيّة الشرّ كما ورد في الحديث: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلها كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لَم تُكتَبْ عَلَيهِ). وعوداً على بدء: قد عرفنا فيما مضى أن أحد الأغراض الرئيسية من بعث الأنبياء عليهم السلام هو إقرار العدالة الاجتماعية فهم عليهم السلام الواسطة بين الخالق والمخلوق، وحبل اللَّه الممدود من السماء إلى الأرض، ولكن كيف نعرف صدقهم وصدق دعوتهم من بين القادة المنحرفين والدعوات الضالة ؟ القرآن الكريم من خلال الآية مورد بحثنا المتواضع يجيب على هذا السؤال إذ يقول: “بِالْبَيِّنَاتِ”. لهذه الكلمة معنيان يبدو أن كليهما تشملهما الكلمة: 1 – تفاصيل الهدى، المتمثلة في الثقافة التوحيدية، والبصائر والقيم، والمناهج المنبثقة منها، واشتمال رسالات اللَّه على هذه التفاصيل دليل على أنها وحي من عند اللَّه، إذ قد يهتدي بشر أوتي صفاء النفس إلى بعض معاني الغيب، ولكن أنّى للإنسان أن يأتي بهذه المنظومة المتكاملة من البصائر الغيبية؟ ما ذلك إلا دليل اتصاله المباشر بالوحي. 2 – الحجج والآيات التي تهيمن على النفس والعقل، كالمعاجز، والخلوص من الهوى والمصلحة والتمحض للحق، وهذا يهدينا إلى أن الرسالات الإلهية قائمة قبل كل شي‏ء على الإقناع، لأنه الذي ينمي الإيمان في النفس، ويحرّكه بفاعلية أكبر وأبقى من أي عامل آخر، وربنا يقول: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” (فصلت 53). ذلك أنّ الإيمان الناتج من الاستجابة للبينات والآيات هو الذي يخشع القلب والجوارح لذكر اللَّه، ويطوعها للرسول ولما نزل من الحق وللميزان، وبالتالي يدفع المؤمن للقيام بالقسط، وحينما يتخلّف أحد من المؤمنين عن الاستجابة للرسول وللوحي فانّ ذلك يدلّ على تزلزل في قناعاته. وحيث لا يؤتي الإيمان ثماره إلا إذا تحول إلى نظام تربوي، اجتماعي، اقتصادي، سياسي، ثقافي شامل لجوانب الحياة، يكفل للبشرية السعادة، أنزل اللَّه شريعة متكاملة إلى جانب البينات متمثلاً بالكتاب. “وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ”. فإذا كانت البينات تؤمّن القناعات الأولية فانّ الكتاب يؤمّن النظام العملي الشامل المنطلق من الإيمان، والذي يستهدف تكريسه بعمق في النفوس والواقع، والقيام بالقسط – هذا الهدف العظيم – إنما يستمد شرعيته وشرعته منه. ومع دلالة الإنزال على المعنى الظاهر من الكلمة فانّه يدل على الفرض، وكل ما نزل من الخالق إلى المخلوق فهو لازم ومفروض عليه القيام به، ومن البديهي أن معرفتنا بالبينات وانّ الكتاب من اللَّه تلزمنا العمل به وتنفيذه. (وَالْمِيزَانَ) فما هو الميزان؟ هل هو العقل؟ أم هو الإمام العادل؟ أم هذه المقاييس التي يزن الناس أشياءهم بها؟ طبعاً المراد من الميزان هو الوسيلة التي يقاس بها وزن البضائع، وهذا مصداق حسي لمعنى الميزان. ومن الواضح هنا أن المراد من الميزان هو المصداق المعنوي، أي الشيء الذي نستطيع أن نقيس به كلّ أعمال الإنسان، وهي الأحكام والقوانين الإلهيّة أو الأفكار والمفاهيم الربانية، أو جميع هذه الأُمور التي هي معيار لقياس الأعمال الصالحة والسيئة. فيبدو أن الميزان أساساً هو المقياس الذي نعرف به تطبيق الحكم على الواقع الخارجي، وهو لا يتمّ إلا بالعقل والإمام والمقياس السليم. وقد تسأل عزيزي القارئ كيف ذلك ؟ نقول في الجواب: أولاً: ما جاء القرآن الكريم ليلغي دور العقل، إنما ليثير دفائنه بالاجتهاد في فهم حقائقه وأحكامه وطريقة تطبيقه، وليقوم بدوره الحساس والخطير في حياة البشرية. ثانياً: ما جاء القرآن الحكيم بديلاً عن الإمام، أي: السلطة العادلة، حيث يجب التسليم للقيادة الشرعية في حدود قيم الكتاب، فدور الإمام يكمل دور الرسالة، لذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي قد تركت فيكم الثّقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللَّه حبلٌ ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض). وقد أجمعت فرق المسلمين قاطبة على هذه الرواية، مع حكم العقل بضرورتها، أما قول الخوارج: حسبنا كتاب اللَّه ! فانّه باطل بشهادة الكتاب، وشهادة العقل، بل وشهادة التاريخ البشري حيث لم نعهد جماعة بلا سلطة تحكمهم، وحتى الخوارج أنفسهم ما عاشوا دون سلطة طول تاريخهم. وميزان الإنسان في الدنيا هو ميزانه في الآخرة حيث يقول ربنا سبحانه: “يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا” (الاسراء 71). نعم، ففي ذلك اليوم يدعو اللَّه سبحانه كل امة بإمامها، والإمام يعكس قيم أمته، وهو تجسيد لكل فرد في الأمة، وهكذا يجب أن تنبع القيادة من صميم الأمة، وتعيش واقعها، وكل قيادة لا تنبع من صميم الأمة فإنها لا تملك مبرر البقاء لأنها تتنافر طبيعياً مع كل فرد في هذه الأمة، والإمام هو القرآن الموحى به، وهو الذي يجسد القرآن الكريم ويكون قرآناً ناطقاً، فالفكرة الإسلامية هي القائدة وإنما يمثلها ذلك الإمام الناطق بها، ويجب على الإنسان أن يتبع الفكرة قبل أن يتبع الشخص، وان يعرف خط القائد قبل شخصه، فإذا أردت اتباع قيادة فلابد أن تعرف خطها أولاً. قال أمير المؤمنين عليه السلام: (عليكم بالقرآن فاتّخذوه إماماً قائداً). “فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً” (الاسراء 71).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here