العقل الفاسد والعقل الصحيح

كامل سلمان

العقل الفاسد يتقبل الأشياء دون مسائلة ودون تمحيص لأنه عقل استسلامي ملوث والعقل النظيف دائماً يحتاج إلى تدقيق لقبول الأشياء . العقل الفاسد موجود عند الجمع الأكبر من الناس ، بينما العقل النظيف يتواجد عند الأفراد القلائل من الناس ، أي أن العقل الفاسد هو عقل الغالبية المطلقة والعقل النظيف هو عقل القلة القليلة . العقل الفاسد لا قيمة له ولا منفعة له ومع ذلك له القدرة على إفساد الواقع وتحطيمه عندما يتم تفعيله وإعطاءه مساحة من التحرك ، والعقل النظيف ينهض بالواقع عند تفعيله وإعطاءه الفرصة للتحرك وسط المجتمع . العقل الفاسد يسير بأتجاه واحد يبحث عن الذهاب ولايبحث عن الإياب بينما العقل النظيف يساوي بين أهمية الذهاب والإياب . العقل الفاسد ينتصر أولاً ثم ينهزم لاحقاً ، بينما العقل النظيف قد ينهزم أبتداءاً لكنه حتماً سينتصر في الأخير .
هذه الفروقات وغيرها بين العقل الفاسد والعقل النظيف تجعلنا ندرك الصورة الحقيقية لمعاناتنا التي تنطلق من فساد العقل في مجتمعاتنا ، نحن بصراحة نعيش تحت تأثير عقول ليست فاسدة بل عقول عفنة كتبت لها أن تلعب دوراً ريادياً في حياتنا ، لا يوجد مجتمع يعاني إلا وتجد العقل الفاسد موجود في قمة هرم ذلك المجتمع . لا يمكن أن يكون هناك عقل فاسد من المنشأ أو من لحظة الولادة ولكن الفساد والعفونة تأتيه فيما بعد من خلال التلقين الخاطئ وعزله عن التلقين الصحيح ، يأتي كل ذلك من خلال جهل الاباء والمجتمع ظناً منهم أن أسلوبهم التربوي هو الصح ، فلو ترك العقل ينمو بشكله الطبيعي وفي أرضية صحيحة وبيئة صحيحة سيتخذ المسار الصحيح ، وقليل جداً من الاباء يفهمون هذه المعادلة .
من أكبر الخطايا التي يرتكبها الاباء والمجتمع ضدّ أبنائهم عندما يلقنون الأطفال المبادىء الاخلاقية المحشوة بفساد العقل .
ماذا نقصد بالعقل الفاسد ؟ العقل الفاسد هو العقل الذي يخاف البحث عن الخفايا والعمق والأستفسار خاصة امام المحضورات الاجتماعية والدينية وامام التلقين الذي يأتي عن طريق سادات المجتمع ، هو العقل الذي يبحث عن إرضاء المجتمع ليكسب راحة البال والضمير ، هو العقل الذي يرفض قبول التجديد الذي بقبوله تنقلب موازين الحياة رأس على عقب ، وإذا تقبل التجديد يتقبله بشكل جزئي ، لذلك فهو عقل أكثر من نصفه ميت لا يقوى على التحرر . أن أهم ما تسعى إليه المجتمعات الحرة هو جعل عقل الطفل نظيف غير فاسد لذلك نرى صرفيات المدارس الابتدائية والمتوسطة عند تلك المجتمعات تعادل أقتصاديات دول بأكملها ، لأن تلك المجتمعات توصلت إلى أهمية نظافة العقل منذ الصغر في دفع المجتمع الى الامام ، التجارب تخبرنا بأن التطور يأتي فقط من مصدر واحد وهو العقل النظيف .
المشكلة أن صاحب العقل الفاسد لا يعرف بأن عقله فاسد فيحارب صاحب العقل الحر النظيف ويمنعه من أخذ دوره في الحياة ويمنع عطاءه .
العلم والمعرفة المتطورة وليست المعارف الثابتة هي وحدها قادرة على إيصال الغذاء للعقل وتنظيفه من ملوثات الفساد وما عدا ذلك فهو تلوث .
أي فكر أو معتقد تكون من نتائج تطبيقاته ذهاب المنفعة لفئة من الناس على حساب فئة أخرى فأن مصدر هذا الفكر هو العقل الفاسد ، أي فكر أو معتقد يقف بالضد من العلم هو فكر نابع من العقل الفاسد ، أي فكر أو معتقد يكثف إهتمامه بالماضي ويهمل المستقبل هو فكر مشبع بالعفونة المتولدة من فساد العقل ، العلم هو نتاج العقل النظيف يعطي المنفعة للجميع ، ولا يميز بين عدو وصديق ، عالم أو جاهل ، إمرأة او رجل ، ثم يأتي من يمنع وصول هذا العلم للمرأة ويحرمها منه أو من يأتي ويحرم الطفل من المعرفة الصحيحة ويحشي دماغه بالخزعبلات ، أو من يجعل الحياة جحيم على البسطاء ، هذا المفارقات مهمة لتشخيص مصادر العقل الفاسد . العلم أعطانا الأنترنيت وهو نتاج العقل النظيف فعمت الفائدة جميع الناس بلا استثناء لأنه نتاج العلم ولكن أصحاب العقل الفاسد استثمروا الانترنيت لإفساد بعض العقول وتمكنوا من ذلك ، فذهبت المنفعة لفئات محددة دون غيرها .
الجميع يتحدثون عن أهمية العقل في تقييم الأمور حتى الدجالون والمشعوذون يتحدثون عن العقل ، ولكن ليس الجميع يقودون الإنسان للنظر إلى النتائج ، فالطبيب والمشعوذ كلاهما يراهن على نجاح طريقته في علاج المرضى ولكن كلاهما لا يستطيعا أن يراهنا على النتائج المتوخاة من عملهما ، فقط الطبيب هو من يراهن على النتائج لأنه يتصرف بعلم وعقل نظيف ولأنه صاحب علم تجريبي . أن أهم مايميز العقل النظيف هو الأمل والتفاؤل والتفاعل مع الحياة بحب واندفاع ، لكن على طول التأريخ صاحب العقل النظيف يجد نفسه يعيش في مساحة ضيقة داخل المجتمع لأنه يختلف في تطلعاته ونظراته للأمور في وسط غالباً ما يكون ملوث وغير صحي . أن أسوأ ما يعانيه جسم الإنسان الصحيح هو بروز الغدة السرطانية التي إذا ما استفحلت تقضي على صحة الجسد كله ، وكذلك المجتمع فأن أسوأ ما يعاني منه المجتمع هو شراسة العقول الفاسدة المسرطنة ، التي إذا ما ترك لها المجال فأنها لا ترحم وتؤدي بالنهاية القضاء على كامل المجتمع ، فهنا تنتقل المعاناة لعقل المثقف الذي يجد نفسه أمام مهمة شبه مستحيلة لمكافحة فساد العقل وخاصة في المجتمعات العليلة المتخلفة التي لا تميز بين خباثة العقل ونقاوة العقل ، وفي لحظة وأخرى يجد المجتمع نفسه يشارف على الموت بسبب جهالته بمساوىء العقول الفاسدة التي لها القدرة على الإنتشار سريعاً بين الناس .

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here