الهجرات العربية القديمة نحو الشرق، مستهدفة بلدان الهند الصينية، كانت نتائجها مكتسبات حضارية باهرة. الحلقة السابعة والاخيرة

الهجرات العربية القديمة نحو الشرق، مستهدفة بلدان الهند الصينية، كانت نتائجها مكتسبات حضارية باهرة. الحلقة السابعة والاخيرة
* د. رضا العطار

ان الجموع الغفيرة من العرب التي هاجرت بأتجاه الشرق خلال القرنين السابع والثامن الميلادي، كانت دوافع الهجرة اقتصادية بالنسبة الى التجار، وعقائدية بالنسبة للمسلمين، خاصة العلويين منهم الذين كانوا يقاسون من ظلم وجور حكام بني اميّة وبني العباس، ولذلك لم يكن امامهم خيار آخر سوى ترك الاوطان والملاذ في مناطق نائية آمنة، حيث وجدوا فيها البيئة الملائمة لنشرعقيدتهم الاسلامية، خاصة بعد ان حظوا بالأستقبال والقبول من قبل سلاطين تلك البلدان التي توطنوا فيها، وقصة ملك الفلبيين في جزيرة يوايان ما زالت طرية في الذاكرة، كيف انه اسلم على يد عربي علوي، وعلى اثر ذلك اعلن جميع السكان في الجزر التسعة التابعة له، اسلامهم.

اما الدوافع الاقتصادية، فلم يكن لها تاثير كبير عموما خاصة وان الشعوب العربية كانت تعاني الفقر قرونا عديدة وقد اعتدت عليه مع الزمن تحت وطأة حكامهم المستبدين وغياب نظام العدل الاجتماعي، فكانت هجرة العربي في البادية، انتقالا محليا، اتسم به البدو الذين كانوا يتركون مكان سكناهم في حالة الجفاف، سعيا وراء الماء والكلأ.

لكن الذي حدث في اعقاب الحرب العالمية الاولى وتحديدا في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن العشرين ان سائت الامور المعاشية في بلاد الشام بشكل غير مسبوق . مما دفع شعوبها وخاصة شعب لبنان الى الهجرة للخارج، فكانت امريكا هي الهدف، بعدما توقعوا ان يتعرضوا الى خطر المجاعة، فركب الهوس رؤوسهم في ترك بلادهم حتى فرغت من نصف ساكنيها .

ما اسخف البلد الذي يباهي ابناءه بأنهم يبنون في الغرب ناطحات السحاب بينما تكون قراهم في الوطن الأم خاوية خالية ينعب فيها الغراب، وانهم يولدون في وطنهم في الاكواخ، ويموتون في الغربة في الأبراج، وما اتعس الشعب الذي يتضائل في بلاده ويتعاظم في بلاد الغربة. تود الحكومات العربية اليوم التي ينتمي اليها المهاجرون، لو تسترجعهم الى ارض الوطن، فتوسد ذلك بالوعود المشوقة، حيث يلتقي حسن النية بقصر النظر، فعودة المغتربين هي غربة ثانية بالنسبة اليهم. لقد توثقت الصلات التي تربطهم ببلد المهجر ووهنت صلاتهم بالوطن الأم في العشرات السنين التي مضت. فإذا عادوا اليه لم يجدوا فيه الاواصر والارحام التي انسلخوا منها يوم هجرتهم – وكانت مناط حنينهم في غربتهم — فقد قيل في المغترب العائد:

رب كهل عاد منهوك القوى * * * كان يوم البين طلاع الثنايا

لم يجد من عهده في قومه * * * باقيا غير المخازي والشكايا

اللذاذات التي يشتاقها * * * اصبحت في ارذل العمر رزاياها

يا لها من غربة ثانية * * * في صميم الدار ما بين الولايا ـ1

1 ـ القروي شاعر لبناني من المهجر.

ان الابداع الفني و الثقافي الذي ظهر في ادب المهجر الشرقي قد خضع مع بالغ الاسف الى الاهمال و التعتيم . علما انه قد توفر في ذلك المحيط المنهل من الظروف الملائمة مما شجع بعض النوابغ من المهاجرين العرب من ان يبلوا بلاء حسنا في مجالات العمل الخلاق والفكر المنير كالادب والشعروالدين، فغدوا اعلاما يشار اليهم بالبنان, كان الشاعر الفذ ابو بكر احدهم. اكثر ظني ان القصد من هذا الاهمال هو ان لاتتاح الفرصة لادب المهجر الشرقي من ان ينال قسطا كافيا مما يستحقه من عناية الدارسين في البحث والتنقيب لئلا يكسب روادها نصيبهم من الشهرة التي حققوها عن طريق نتاجاتهم في الادب الانساني الخلاق.

لقد عاد معظم الحضارمة الى وطنهم بعد اغتراب طويل, فكانوا في نظر شعبهم من ابنائه البررة كونهم لم ينسوا جذور منبتهم ولم يتنكروا فضل تربة وطنهم, بل انما كانوا معه دوما على اتصال روحي وثيق, لقد جلبوا معهم من بلد المهجر الاموال التي وفروها والخبرة التي اكتسبوها والثقافة التي تعلموها, فساهموا بشوق ونشاط في بناء بلدهم العزيز الشبه صحراوي, فانقذوه من براثن الفقر والفاقة والتخلف الحضاري, حتى ظهرت في حضرموت اليوم بوادر الحياة العصرية.

كانت الهجرات الاسلامية المتعاقبة الى ممالك الهند الصينية, هجرات جارفة حملت الاعداد الغفيرة من ابناء العروبة الى اوطان بعيدة اتسمت بيئتها بالامن والامان والتمتع بشهرة المقام، اذ فسحت تلك الممالك المجال امام القادمين كي ينعموا بالأستقرار وراحة البال. والحياة الكريمة، وأظهرت لهم روح التسامح العقائدي. فأصبحوا بمرور الزمن شعبا كاملا على كثرتهم. لكن تلك الجماعات وبضمنهم الاسر العلوية التي حالفها الحظ ان تفلت من قبضة الحكام الظلمة في اوطانهم القديمة، بدأت الآن تذوب تدريجيا في المجتمعات الكبيرة مع مرور الزمن، حتى انتهوا اخيرا في غيبة ابدية. فلم يعرف الاحفاد عن جذور ابائهم واجدادهم في الوطن الام شيئا, مثلما لم يبقى لهم من الماضي الا شبح الذكريات. كما حدث لاسرة – الحسن – في اندونيسيا التي انطوت انطواء كاملا حتى اصبحت سلالتها تحمل اسماء محلية فغدوا يعرفون بعد اجيال بال ساسترو.

ومقابل هذه الخسارة البشرية الفادحة التي المت بشعوب الهلال الخصيب بفقدهم الافذاذ من ابنائها, كانت الجهود المخلصة لهؤلاء الرواد في نشر العقيدة الاسلامية في اقطار الهند الصينية باسلوبهم السلمي الهادئ الذي انتج بعدئذ ثماره الحلوة ، ان هذا الحدث ان دل على شئ انما يدل على وظيفة دينية وحضارية واجتماعية كبرى في ازمانهم وما بعدها, هؤلاء جميعا نسجوا في صبر طويل وعمل دؤوب نسيج ذلك العالم الاسلامي الواسع الذي شكل بعدئذ الجناح الشرقي من جسم الامة الاسلامية.

والجدير بالذكر ان الاسلوب الذكي في نشر العقيدة، لاقى قبولا و استحسانا منقطع النظير لدى تلك الامم لا على الصعيد الشعبي فحسب وانما على الصعيد الرسمي كذلك وكانهم ادركوا ان ( ذلك الدين القيم ) قد ولد تحت شمس التاريخ المحقق. انها كانت انجازا رائعا ومشكورا, اعطت نتائج باهرة منيرة, علما ان عدد المسلمين قد تزايد وتضاعف, فبعد مضي قرنين من الزمن, اضحى تعداد المسلمين في اندونيسيا وحدها 275 مليون مسلم (طبقا لمعطيات كوكل) ، نعم انهم بنوا بعملهم الجليل هذا المجد الشامخ للنهضة الاسلامية، سجله التاريخ لهم بقلم من ذهب, حقا انها كانت ملحمة ليس لها نظير في تاريخ الاديان.

* مقتبس من كتاب دائرة المعارف الاسلامية الشيعية لحسن الامين بيروت 1990 مع اضافة لكاتب السطور

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here