رسالة مفتوحة لدولة السيد عادل عبد المهدي … المحترم

د. عبدالرضا الفائز

[email protected]

دولة الرئيس المحترم … محطات حياتك حفلت بشخص يتعاطف مع المظلومين أيا كانوا في جنس أو معتقد. لكنك في سعيك نحو العدالة، تنتقل بين جهات واتجاهات، كنت وديعا من أجلها ومسالما أحيانا مع أعدائها. وربما كان ذلك سببا في أن يتفق المتصارعون للمال والجاه والنفوذ، أن تكون أنت البديل. آملين أن يضعف حزمك ويثبط عزيمتك، وسطيتك. عسى أن يسلم الفاسدون مع فسادهم، أو فيه يتمادون، وهم لا يرون مشروعا “يخدموه” يُسيّر فيه العراق، هدفه الجغرافية والمبدأ والثقافة، ناسين عقاب ما سوف يأتي من العراقيين والتاريخ.

والعراقيون اليوم يحتاجون حزم صدام (دون جرائمه)، وتدّين فيصل الأول (في وطنيته)، ونزاهة عبد الكريم (وطهارته) … فهل تستطيع أن تكون عادلا في ذلك، والفرصة أمامك. فقد أبتدأ عهدكم كما أعلنتم بتحديين، محاربة الفساد وتنشيط الإعمار، وهما تحديين ليسا بهينين. وخوفنا أن ينقضي عهدكم كما أنقضى وعد السيد العبادي قبلكم حين هدد بحياته أو الفساد، فأنتهى مع ولايته سالما، تاركا لكم المهمة ومعها الإعمار تحديا.

إن التحدي الأول يعني مقاتلة ثقافة مدت جذورها مع طغيان عائلة فرد وامتيازات عشيرة وحماية أعوان مجرمون. واستفحلت بعد سقوطه، فطغت اليوم ونجحت بتحويل جمهورية “الخوف” إلى جمهورية “الفساد”. وأصبح العراق “الجديد” مع عجب العراقيين والعالم، في ذيل قائمة البلاد الخالية من الفساد. إما الثاني فيعني تغيير آليات قطاع عام كسيح مترهل كسول، يقاوم الإنتاج ويحارب الإقتصاد، رهن الدولة إلى العوق بفعل بدائية إجراءاته وتخلف وسائله (في عصر الألكترون والفضاء)، مع تراجع ما كان يمتلك من وسائل عتيقة قديمة حين أمن السيئون فيه العقاب.

إنا لا أدري إن كانت هذه الرسالة تصل إلى مكتبك، أو تصل فلا تُقرأ. فتجارب الكثير (ولي منها)، تشهد عن ردود أفعال محبطة، تتكاسل عن الإنتباه وتلهو بالتجاهل بسبب خراب أداري وإهمال احترافي “لا أبالي” في أعلى مفاصل الدولة ومسؤولية دواليب عملها. وهو حال لم يعشه العراقيون من قبل، وقد عهدنا المسؤولين والقادة يقرأون ويستطلعون ويردون. بل وأستمر ذلك حتى في عهد صدام، حين لا تنازع الطلبات ما أتكأ عليه وزبانيته.

إن محاربة الفساد ليست معضلة معقدة أو مستحيلة، كما صورته حكومات عجزت عن مواجهته بعد 2003 لأسباب ذاتية بنيوية اتكأت عليها. ودون ذلك لن يكون إعمار منتج أو عمل لشباب محبط أوتحسين لإقتصاد ريعي مرتبك. والفساد نفسه في شقين كما تعلمون. سياسي وإداري، يتعاونان في حواضن تقتات بالسحت، وروافع تحمي الحرام وبه تحتمي، لتفرخ الفساد المالي، غاية المفسدين الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن “بالدين” مصلحون، وجزاؤهم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

والفساد السياسي عماد كل فساد، والعراقيون في خيبتهم وإحباطهم، يعرفون ما يعني، ومن أين يأتي ومن يدعمه ويقتات منه، وما هي منابع ثقافته وقوته ورموزه وتبريراته، وما يصنع من غايات دنيئة وما يأتي معه من أموال وسخة وأعمال قذرة، وما يفرّخ من فساد مالي وإداري. وعلاجه حزم نزيه جرئ لا يخشى لومة لائم، فيوقف حيتانه ويقتص منهم بشجاعة. وبغير ذلك لا داعي في حديث (استهلاكي) عن محاربة

الفساد أو أدانات في غياب، وليس لنا إلا أن ننتظر، عون من السماء ينزل أو سبب من الأرض يأتي. فلا معنى أن نكون في مقدمة الدول الفاسدة طوال عقد ونصف، لكن … بلا مفسدون كبار (!).

إما عدو الإعمار الآخر وما يطلبه من تقدم وإستثمار، فهو قطاع الدولة العام الذي يرفع شعار الفساد الإداري “لا تدعه يعمل” وهو شعار مقلوب لمبدأ وجوده وغايته “دعه يعمل” عبر تسهيل العمل وخدمة الناس. وبالتالي أصبح موظفه المدفوع الأجر (من مال الناس) سيدا لا خادما، ومعوقا لقطّاعه لا مُسهّلا. وسائله عتيقة، متسلحف عن إصرار، ومترهل في تقوقع، خامل تحت مفاهيم جهل ومسلمات غباء. فهو مؤذي، بروتينه ودوران تعاليمه ومكاتباته المطولة ووسائلة التي غيبتها الحداثة في القرن العشرين، فكيف بنا وقد دخل العالم القرن الذي تلاه. فلقد أصبح الاتصال به هاتفيا ممنوعا (بلا سبب) وكان قبل 2003 وبضع سنين تلته مسموحا (!). وأغلب دوائره لا تعرف معنى البريد الألكتروني ولا الأنظمة الألكترونية اللذان أعتمدهما العالم بداية تسعينات القرن الماضي، وهي في العموم لا تعتمدهما. فأصبح عاجزا عن الإنجاز، ومعاكسا لسبب إستمراره ومبرر وجوده.

فهو الأكبر نسبة بالحجم في العالم، والأدنى في مؤشرات محاور العمل الحكومي (إن وجدت) بين دول المنطقة، وبعضها اعتمدت 3000 مؤشر(!)، يعرقل أعمال الناس ويعرقل بعضه بعضا، كي لا يكون هناك إنتاج في إقتصاد العراق الريعي المهلهل. تتسيد فيه الزحمة والفوضى، وقلة الكفاءة، وغير المناسب في المكان الهام. ترتع فيه الرشوة (والسرقة) حين يخدم الناس، ناهيك عن ما فعله في طرد الاستثمار والتنمية. وقد نجح في ذلك وتمادى.

في قول لصدام “تنفجر البندقية التي لا تستخدم عتادها، وقد عملنا على كيف يكون العراق حين لا يدار بالبعث”. إنه من المؤسف أن الذين حكموا بعد 2003 لم يدركوا “فخ صدام” ولا زالوا بين نظامين إداريين (اقتصاد دولة لحماية حزب، أو اقتصاد حر) يخلطون فيَظلمون ويُظلمون ليذكرونا بشاوشيكو الذي قال لمن أعدموه، إنكم لن تستطيعوا دهن البنايات التي بنيتها. الأمنية التي هزمها قادة رومانيا الجدد، وتعثر بها قادة العراق “الجديد”. ولا زالوا للأسف معها … يراوحون ويتعثرون.

إن القطاع العام في بنيته الحاضرة لن يتأهل للبناء والإعمار ما دامت هيكلية عمله مترهلة ووسائله بدائية. والأسوأ إن الحكومات التي أتت وسوف تأتي عبر العملية السياسية العليلة أثبتت إنها غير قادرة على إحداث ثورة إدارية صحية فيه، بعد أن شاركت في تخريبه وإفساده، بحماية سياسيين في أحزاب وشلل. فلم يصل التطور والإنجاز في 16 سنة من سنوات العراق “الجديد” إلى جزء من ما أنجزه ضابط واحد في سنوات العراق الجمهوري الأولى القليلة، رغم الفارق في التحديات والفرص والإمكانات … فيا للحسرة والأسف عليك يا عراق تمنياه جديدا حقا.

إن أيا من مظاهر الفشل لا يكمن في فردية المواطن كما يُزعم، بل هو في تقييد تلك الفردية التي يعرقل حركتها ويخنق إبداعها، وتفسدها أغطية روتين وإداريات ليس مكانها عصر الرقمنة وافتراض الواقع والأتمتة (Digitization, Virtualization, Automation)، صفات الثورة الصناعية الرابعة التي تبعدنا عنها (بفضل هذا القطاع) عقود. فأصبح ما ينجز في دول حولنا بساعات أو دقائق، يأخذ أسابيع وأشهر في العراق “الجديد”، ولكل عراقي مع ذلك تجربة وشاهد. ولأنه قد أفتقد صحة البنية وجهل الألفة وغابت عنه حداثة الأنظمة، فهو عن التقدم “الألكتروني” بعيد في الزمن ومنيع في البنية والبشر، وإن كان في ذلك ضبطه وكسر تخلفه، لعلاجه.

إن للنجاح مع الخبرة مقومات، أهمها التخصص في عالم التخصص، والمهنية في زمن المهنية، والتقنية في عصر التقنية، والمناسب في المناسب. وعلينا حين نصنع الواقع أن ندرك وجهة المستقبل وأحداثه، أو نتوارى. وإذا اردنا تفادى استمرار الفشل والهدر غدا، علينا أن نعرف لماذا فشلنا بالأمس.

ختاما … شكرا يا دولة الرئيس إن كنت تقرأ هذه الرسالة، ورفقا بالبصرة أن تهّبُ (أو يُهبَ بها) لأن منها ولغيرها قد يشب حريق. والتاريخ يذكر إن كثيرا من أحداث العراق قد بدأت في البصرة أو منها إلى بغداد، مرت. فلا مشكلة الماء حُلت ولا ما إنتفضت من أجله قد عولج أو تحقق. فبفضل السيد “فساد” وقطاع عليل (شبه ميت)، لم يحدث شيء. فلا حول ولا قوة إلا بالله. وأقبلوا الاحترام والتقدير.

التنمية والقطاع العام في العراق: https://www.sotaliraq.com/2018/10/20/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here