(نديم كوفي)
جرت العادة أنّ من يملك القوة في لحظة التأويل هو القادر على فرض تأويله على الجميع، بغضّ النظر عن مدى صحة ذلك التأويل
تظهر الأوضاع السياسية في العراق، بعد مرور قرابة عقدين من الغزو الأميركي، أن أهم عنصرين لبناء نظام الحكم، الدستور والمؤسسات، يعانيان من ضعف شديد في بنيتهما المؤسّسية. فالدستور العراقي الحالي، الذي كُتِبَ في ظروف استثنائية مرتبكة وغير مستقرّة، وتحت قوة احتلال قادت عملية غزو وتغيير للنظام السياسي، يُمثل وثيقة سياسية أكثر منه عقداً اجتماعياً، فهذا الدستور يبقى ناقصاً وغير مكتمل، ويحوي غموضاً كثيراً في المفاهيم. كذلك فإنه يشتمل على مغالطاتٍ عديدة، فضلاً عن قابلية نصوصه للتأويل المفرط. وبالتالي، جرت العادة أنّ من يملك القوة في لحظة التأويل هو القادر على فرض تأويله على الجميع، بغضّ النظر عن مدى صحة ذلك التأويل، بينما المؤسسات الرسمية التي تُعَدّ أحد أهم عوامل الاستقرار لدى الأنظمة السياسية، ينخرها الفساد، فما يتوافر في عراق اليوم مجرّد هياكل لمؤسساتٍ تغيب عنها صفة المؤسسة بمعناها البنيوي الوظيفي، مقابل غلبة الفوضى وهيمنة الأجندات الحزبية، وعدم قدرة الدولة ومؤسّساتها المفترضة على الاستجابة الفاعلة للتحدّيات التي تفرضها متغيرات داخلية وخارجية، ما قاد، في النتيجة النهائية، إلى إفراغ المؤسّسات من مضمونها، وتحوّلها إلى مجرد هياكل غير فاعلة، تتغلغل فيها الطائفية والقومية في تقاسم المناصب العامة والعليا، بعيداً عن المهنية والموضوعية والاعتبارات الوطنية، ولا سيّما على صعيد منصب الرئاسات الثلاث والكابينة الوزارية ورؤساء الهيئات المستقلة والوظائف القيادية والعليا المدنية والعسكرية، وهو ما يؤكّد حجم الخلل البنيوي في النظام القائم وحقيقته، وطريقته الحكم.
وبالتالي، أهم ما يُسجّل على هذا النظام السياسي قدرته الفائقة على إنتاج الأزمات وتدويرها، فضلاً عن الاعتماد المستمر على العامل الخارجي في حل المعضلات التي تواجهه. فالأزمة الدستورية والسياسية التي يواجهها العراق اليوم نتاج طبيعي لخلل بنيوي في المنظومة السياسية التي حكمت البلاد منذ الغزو الأميركي. وطوال السنوات الماضية، كان يجري تجاوز هذا الخلل وإخفاؤه من خلال التوافقات والمحاصصات بين القوى السياسية العراقية الحاكمة، إلى أن جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية، أخيراً، التي أفرزت قوة فائزة تطمح إلى أن تكون لها اليد العليا في قيادة دفّة العملية السياسية، خلافاً للعرف السياسي السائد، لتثبت أنّ من الصعب على العقد الاجتماعي (الدستور) الحالي أن ينظّم حالة سياسية صحيّة تعتمد التنافسية السياسية بديلاً من التوافقات وتوازن المكونات، ولتثبت أيضاً أنّ هذا العقد سيبقى عاجزاً عن إجراء تغيير في نمط العملية السياسية المتعارف عليها في العراق. ومن هنا بدأت أصواتٌ تطالب بعقد اجتماعي وسياسي جديد، يعيد إنتاج النظام السياسي في العراق، وينهي حالة الجمود والإحباط، ويعالج الأخطاء المتراكمة طوال السنوات الماضية، ويلبّي الطموحات الشعبية الراغبة في تحسين أداء الحكومة ومؤسسات الدولة، بما يضمن تحقيق نمو في مؤشّرات التنمية ومعالجة المشكلات.
في المحصلة، يبدو الأفق السياسي لنزع فتيل الانسداد السياسي في العراق مشوشاً، بينما سياسة المواجهة الصفرية بين التيار الصدري والإطار التنسيقي تستنزف القدرات والجهود السياسية التي كان ينبغي تسخيرها لبناء مؤسّسات فاعلة. فبعد مرور قرابة عقدين من فشل الدولة، يبدو أنّ العراق لم يعد قادراً على النهوض من قاع الأزمات في ظل استمرار هذا النظام السياسي، وما زال يحتاج إلى إعادة صياغة عقده الاجتماعي والسياسي، لانتشاله من محاولات عودته إلى حمّام الدم بسبب عقم في العقل الجمعي لقياداته، وذلك لإيجاد نظام سياسي مستمدٍّ من دستورٍ غير قابل للتأويلات المفرطة، فكلما كانت صياغة الدستور متأنيةً ودقيقةً، وغير قابلة للتفسيرات الواسعة وغير قابلة للتأويلات، وصل العراق إلى ضمانة حقيقية للحقوق والحريات. وكلما فشل في ذلك، نتجت هذه التأويلات للنصوص الدستورية وللقوانين الأساسية الساندة للدستور، التي تجعل الأقوى يفرض تفسيره على الآخرين.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط