بين عقدة حبل شنق سميكة و باقة أمل يانعة

بين عقدة حبل شنق سميكة و باقة أمل يانعة

بقلم مهدي قاسم

” هو ” مستندا بظهره على حافة حائط متأكل و نصف منهار ، أمامه شجرة معمرة باسقة ، يحط على أحد أغصانها غراب نحيف ينعب متذمرا ، شاكيا من شدة جوعه ، فيختلط نعيبه مع همهمة غامضة يطلقها ” هو ” بامتعاض و إستياء :
ــ .. يا عالم يا ناس !.. لقد ضقتُ ذرعا بحدوة الحياة الضاغطة هذه …أنا أختنق ..أختنق ..أختنق منزلقا إلى قاع يأس مظلم و مطلق .. فما من باب إلا و موصد في وجهي .. وما من طريق إلا وعر و ملتو على نفسه مثل حلزون متحجر.. فما من نافذة إلا عمياء بغشاوة عتمة ، إذن فلتبدأ خطوة الرحيل الفورية ..ولتأتي نهاية المشوار سريعة ، سريعة ، كضربة برق حارقة وماحقة ..
ثم يتحرك نحو الشجرة الشاهقة ليتسلقها واضعا على كتفه حبلا ذات عقدة سميكة ، متقدما بخطوات مترنحة وبطيئة مضطربة ..
إلا أنه في أثناء ذلك .. بينما هو يشق طريقه متسلقا بصعوبة بالغة نحو الأعلى، يأتيه صوت أنثوي رقيق من مكان مجهول ، ولكن قريب جدا ، كأنه كامن بين أركان و زوايا قلبه … صوت قلق و متذرع مترجيا في الوقت نفسه .. ولكن بنبرة ودية حينا ، و حنونة ولطيفة حينا آخر .. حتى لتكاد أن تكون تلك النبرة الحنونة معروفة له ، ربما سمعها مرارا .. نبرة محببة ، محدّثة عنده للتو انطباعا أو تصورا مفاده أن صاحبة الصوت أما إنها أمه أو صوت حبيبة سابقة لا زالت تحبه حتى اللحظة الراهنة ..
ــ هل حقا هناك ثمة من لا زال يحبني بلا مصلحة أو غاية بعد أمي ؟..
يسأل نفسه بدهشة وشك .. فيخفف من سرعة التسلق نحو أعلى الشجرة ، ثم يتوقف محاولا الإنصات جيدا ، رغم تكرار وشدة نعيق الغراب المتواصل وصفير الرياح القوي الثاقب للأذن ..
حينذاك أخذ يحس بأن ذلك الصوت اللطيف والحنون يقترب منه أكثر فأكثر ، كأنما قادما من بين دهاليز طويلة ، على امتداد حقول وبرارِ مخضبة بنكهة أعشاب و عبق زهور برية ، تحاذيها منخفضة أكوام غيوم متناثرة كما قطعان خراف بيضاء ترعى بوداعة واطمئنان ، يضيئها وميض ظلال مترامية لقمم جبال وتلال بعيدة فأخذ الصوت المتأخي الحميم يهمس بلطف و حنية :
ــ ماذا دهاك يا الولد الحلو !.. أيها الشاب الجميل واللطيف حقا ؟ ..أرم هذا الحبل السميك البغيض بمنظره الموحش عن كهلك بعيدا ، و أفتح عينيك جيدا على وسعهما ..بل أزح غشاوة القنوط والإحباط منها واغسلها بضوء الصباح المشرق والواعد بأشياء محببة دوما وقادمة حتما ، فما الكرب إلا مناخ نفسي متغير وزائل كمناخ فصول ، فأخرج من حدوتك الضيقة هذه ، نحو رصيف الحياة العريض كسعة أحضان بحر شاسعة ، وأنظر جيدا و بانتباه رجاء : سوف تجد أن كل ما قائم أو موجود حواليك من مخلوقات الطبيعة تنبض متألقة بحيوية عارمة شغفا بالحياة ، بجمال ساحر و آسر، يتجدد دوما كلما نظرنا إليه مرة أخرى و أخرى .. تعال واقترب مني لأهبك باقة ورود يانعة من أمل وطيد ودائم ، لترى من خلاله كم الحياة جميلة وحلوة أحيانا عديدة وكثيرة ، لدرجة تستحق تحمل متاعبها ومصاعبها الطارئة بجدارة و بطولة ..
بعد تردد وحيرة ينزل ” هو ” من الشجرة ، راميا الحبل بتردد ، منتبها في الوقت نفسه إلى ذبذبات شعاع تلفت أنظاره ، قادمة من ظل غامض ملامح وهيئة قريب وبعيد في آن ، كأنما يلوّح له ليتبعه نحو أفق ينحي على ساحل بحر حافل بأجساد بشرية ، بعضها يطوف فوق أمواج دافئة متلاطمة ، و بعضها الآخر يغطس متسليا بفرحة أطفال سعداء ، كل ذلك مصحوبا بضحكات مرحة و جذلة ..
الآن نرى” هو ” يقترب من ساحل البحر خطوة بعد أخرى ، حيث يترأى له ظل امرأة .. ويُخال له كأنها تلوّح له منادية ..مبتسمة ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here