ديوتيما للشاعر الألماني فريدريش هولدرلين

ديوتيما للشاعر الألماني فريدريش هولدرلين – ترجمة د. بهجت عباس

هل تـُضيء كما كنتَ من قبلُ

أيـّهـا النـّهـارُ الذهـبيّ !

وهل تـتفـتَّـحُ أزهـارُ أغـنيَـتي

مرّةً أخرى نحوك نابضةً بالحياة ؟

كيف تغـيَّـرَ كلّ ُ شيء !

ما كنتُ تجنَّـبْـتُـه حـزيناً،

يتنـاغمُ الآن في أوتـارٍ حبـيـبة

في أغنيـة طـربي،

ومع كلِّ دقَّـة ساعـةٍ

تـعـود بـي الذِّكرى بروعة إلى أيام

طفـولـتي الهـادئة،

بعد أن وجدتُكِ، الوحيـدةَ.

**

ديوتيـما، أيّـتها المـخلـوقة النبـيلة!

أختـاهُ ، القريبـة منّي روحـيّـاً!

قبل أنْ أعطـيَـكِ يـدي،

عرفـتـُـكِ مـنذُ زمنٍ بعيــدٍ.

قـديـمـاً، في أحلامي التي انبعـثتْ

في نهار صـاح ٍ،

عندما استـلقـيتُ كصبيّ ٍ منشرحٍ،

تحت أشجار حديقـتي،

وهناك في ابتـهـاج هادئ وجمال

بدأ ربيـعُ روحـي،

كنفحات النسيم الربّانيّـة همستْ

روحُـكِ إليَّ

**

آه! وثـمَّ، ومـثـلَ أسـطـورة،

إختـفـى كـلّ ُ إلـهٍ مُبهِجٍ عنْ نـاظـري،

عندما وقـفتُ أمـامَ وَضَـح النـهار

السَّـمـاويِّ مُعانياً، مـثـلَ أعـمـى،

عندمـا ناءَ الزَّمـانُ عليَّ فأحـنـى عـودي،

وحيـاتي باردة وشاحـبة،

وكنتُ منحـدراً إلـى أسفلَ بشوق ٍ،

إلـى مَلـكـوتِ المـوتى الصّـامت:

لا أزالُ أتمـنى هذه النـعـمةَ لنفسي،

أنـا، الهائمَ الأعمـى،

لأجـدَ صـورة قلـبي

عـنـد الظـِّـلال أو هـنـا.

**

الآنَ! وجـدتـُك ِ!

أَجـمـلَ ممّـا تخيّلتُ من قبـلُ،

آمِلاً في ساعـات الراحة،

أيّـتـُهـا المُـلـهــِمـة الفـاتـنـة! أنّك هـنـا؛

من الفـراديـس هنـاك في العـُـلا،

حيث المسـرَّة ُ تـهـرب عاليـاً،

حيث الشيـخـوخـةُ لا تـرتـقـي إلـيهـا،

حيثُ يتـألــّقُ الجمـالُ الوضـّـاح الأبـدي،

هبطت ِ عليَّ من عليائـك.

مبعـوثـة َ الآلـهـةِ! بَـقـِـيـتِ الآنَ

مِـعـطاءً رؤوفـاً إلى

جـانب مُـغـنـّـيـكِ دومـاً.

**

حَـرّ ُ صيـفٍ واعـتـدالُ ربيـع ٍ،

خصـومـةٌ وسلامٌ تتعاقبُ هـنـا

أمـامَ الصّـورة الربـّانـيـّة الصّـامتـة

بأعجـوبـة في قـلـبـي؛

غـالـباً يجتـاحـني الغضب في غمـرة الإذعان،

خجـِلا ً، مـدحـورا ً، جـاهـدا ً أنْ

أ ُمـسـِكَ بـهـا،

تلك التي حلـّقـتْ فوق تخـيـّـلاتي الجّـريئة،

غيـرَ مسرور بالظـَّـفـر،

بكـيـتُ في كبـريـائـي،

لأنـّهـا بَـدتْ لعـقـلـي

رائـعـة جـدّا ً، قـويّـة ً جـدّا ً.

**

أه! إلـى جمـالـك ِ الهـادىء،

لَطـافـة مُـحـيـّـاك ِالبـشـوش؛

يـا قلبُ! إلـيـك تـرانـيـمَ السَّـماء

إنَّ قلـبـي ليس مُـعــتـاداً علـيـهـا،

ولكـنَّ ألحـانك ِتـَجـلي عقـلـي شـيـئا ً فشـيـئا ً،

فتـهـرب الأحـلامُ المُـزعـجـة،

وأنـا ذاتـي أكـون شخـصـا ً آخـرَ.

ألـهـذا أ ُخــتـِـرتُ أنـا ؟

وهـلْ وُلـِـدتُ إلـى النـور والمـرح،

مثـلـمـا وُلـِـدتِ أنـتِ إلى سَكـيـنـتـكِ السّـامية،

أيـّتـُهـا المحـظـوظـة ربـّـانـيّـا ً؟

**

مـثـلُ أبـيـكِ وأبـي،*

وهو في جلالـه الوضـّـاء

فـوق جـُـنـَـيـنـة البلــّوطـ،

يذهب هـنـاك عـالـيـا ًفي بهـاء،

مثـلمـا هـو في أمـواج البحـر،

حيث الأعمـاقُ البـاردةُ تـَزرَقّ ُ،

صـاعـداً إلى قـوس السَّـمـاء،

يُحـدِّق إلى أسفـلَ بسـَكـيـنـة وصـفاء:

لذا هل أريد من أعـالي السَّمـوات،

مُـقَـدَّسـا ًمن جديد في حظ ّ جميـل،

سعيدا ً، لأغـنـّي وأرى

الآنَ عـودة ً إلى الـزائـلــيــن.

——————————————-

* إله الشمس والسماء

عندما عمل فريدريش هولدرلين معلماً لأولاد المصرفي الثري گونتارد Gontard (1795-1798) في فرانكفورت، تعلق بزوجة گونتارد الجميلة جداً زوزيتّـه ٍSusette، فظهرت في أشعاره وروايته هيـبريون – الجزء الثاني (1799) تحت الإسم اليوناني ديوتيما Diotima –الكاهنة التي علمت سقراط الحكمة- ولكنّ معرفة الزوج بهذه العلاقة أدَّتْ إلى خسارة هولدرلين وظيفته والإنفصال عن زوزيتّـه، مما سبب له ألماً شديداً قاده إلى الجنون، كما ذكر بعض المؤرخين. ولما توفيت زوزيتّـه عام 1802 في نورتينغن Nürtingen ، ترك هولدرلين عمله التعليمي في بوردو (فرنسا) ذاهباً إلى نورتينغن مشياً على قدميه، وكان في مرحلة متقدمة من مرض الشيزوفرينيا. وكانت أشعاره التي نظمها بين 1802-1806 ثمرة عقل مشرف على الجنون الذي أصابه كلياً بعدئذ، حيث قضى السنواتِ الستَّ والثلاثين الأخيرةَ من عمره في مستشفى الأمراض العقلية حتى وفاته عام 1843.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here