جنرال السرد الهارب

حمزة الحسن

عندما نأتي الى منزلنا المغربي
كل صيف هرباً من ثلوج النرويج،
تذهب ابنتي حالاً الى صديقتها جارتنا في المجمع السكني الخاص المحاط بكاميرات مراقبة
وحراس ومدخل واحد بحاجز لا يسمح بغير دخول النزلاء وقد وصفه الشاعر صلاح حسن خلال زيارته من هولندة بأنه ثكنة،
إبنة كولونيل مغربي نبيل واسرة كريمة يعمل في القصر الملكي.
أتخلص منها ومن طلباتها التي لا تنتهي،
ولا تدخل الشقة إلا عندما تتذكر شيئاً
خاصاً بها،
لكنها مرة دخلت علي دخول ثور في محل للزجاج،
هائجة وعصبية ومتوترة وهي تقول حتى قبل أن أغلق الباب:
ــــ كنت أتمنى لو أكون إبنة كولونيل.
هضمت الموقف بسرعة لانها رأت الفيللا الواسعة والبذخ ولانني قضيت حياتي اتعامل مع مجانين وجاهز لهذه الصدمات فقلت:
ـــ إسمعي، انت أبنة جنرال.
قلتها بجدية فاجأتني أكثر منها لكنها قالت
بين الذهول والصدمة والسخرية:
ـــ أنت جنرال؟
في هذه الحالات تتلبنسي شخصية الروائي فقلت:
ـــ نعم، ولو أفاق رئيس الجمهورية من النوم يوماً،
لوضع على كتفي رتبة مارشال.
بما أنها لم تسمع بهذه الرتبة وهي غير موجودة
في المغرب كما أظن،
أضفت:
ــــ نعم، مارشال وهي أعلى رتبة من الجنرال،
لكن دعينا الآن من المارشال. لو كانت في العراق عدالة،
وهو أمر مستحيل اليوم كما هو المستحيل
أن تكون عدالة في بحيرة تماسيح،
لوقف الرئيس النائم على قوائمه الأربع،
علناً ووضع على كتفي في الأقل رتبة جنرال.
لم تهضم ما أقول وبدا أنها بدأت تستوعب على مراحل،
ومن حوادث سابقة كثيرة تعرف أنني أعني ما أقول،
رغم أنني لا افهم ما أقول في مثل هذه اللحظات.
افاقت من الصدمة وهي تقول وتنظر إلىّ
كما لو أنها اكتشفت ثعباناً على الحائط:
ـــ انت جنرال جيش؟
تذكرت رواية الروائي الالباني المبدع
اسماعيل قادريه” جنرال الجيش الميت”
التي كادت أن تقوده الى المشنقة رغم صداقته
الاضطرارية مع دكتاتور البانيا البشع والسفاح أنور خوجة،
عن جنرال ترسله ايطاليا الى ألبانيا للتحقيق
في رفاة جنود قتلوا في الحرب لكن عجوزاً ألبانية
تقتله ثأرا لإبنها مع أنه غير مقتنع
بمهمته.
قلت حالاً:
ـــ جنرال في الجيش وفي السرد وفي التخيل،
وفي الكوارث والطقس والغرام وحتى في تحويل
البصل الى حليب.
لكي لا تفيق وتحلل وتفهم قلت بلا اعطاء
فرصة لها للتفكير:
ـــ خمس عشرة سنة حرب من جبال العراق،
الى سهول ومستنقعات الجنوب في حرب الثماني
سنوات القرمزية وهي فترة صار فيها رعاة
اباعر جنرالات فلم لا أكون أنا؟
من الواضح انها بدأت تفهم ما أقول
في اللحظة نفسها التي بدأت أنا لا أفهم ما أقول،
فقالت بنظرة جديدة وجدية:
ــــ هل يمكنني القول ان والدي هو جنرال في الجيش؟
قالت حالاً بلا أي تصور سابق:
ـ قولي كما تحبين،
جنرال في الجيش أو في التسكع أو في التخيل،
وحتى في عبور الحدود وفي ضرب الرأس في الحائط عند الكتابة.
قالت غاضبةً:
ـــ بابا، هل يمكن أن تكون واضحاً
لكي أحدد موقفي؟
قلت في صرامة جنرال حقيقي كما لو أنني
خلال الكلام صدقت نفسي أكثر مما هي صدقت:
ـــ ” لا حاجة لكي تكوني واضحة،
ولا حاجة لموقف محدد،
قولي فقط هو جنرال مكلف بمهمة
البحث عن رفاة جنود عراقيين قتلوا
في حروب العراق وعن قتلى السجون والمقابر الجماعية،
لكنه عاد من المهمة برتبة عريف جيش
عقاباً له لمحاولة أيقاظ الموتى من النوم وتحريضهم لخيانة احلامهم
الذين ذهب دمهم، هدراً. هل فهمتِ؟”
” لم أفهم شيئاً”
قلت ” ولا أنا”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here